يطلق العسكريون على التحليل مصطلح (تقدير موقف) .. ولأن هذا التحليل السياسي يستهدفهم بالأساس فقد استعرت مصطلحهم .
. ربما ينظر كثير من العسكريين إلى الأوضاع القائمة حالياً بإعتبارها فاتحة شهية للانقلاب . فالإقتصاد يولول . ومع الكورونا , وما أعقبها ورافقها من سيول وفيضانات , اتسع الفتق على الرتق , وبدأ الكيل يفيض لدى كثير من السودانيين , كما بدأ يتآكل الرصيد السياسي للحكومة المدنية ولقوى الحرية والتغيير , خصوصاً وأن أداءهما كليهما تشوبه الكثير من السلبيات التي لا يمكن الدفاع عنها
ثم ان القوى المدنية والحزبية الديمقراطية ليست في أفضل حالاتها , حيث تعصف بها الخلافات الموضوعية وغير الموضوعية , إضافة للخلافات المصنوعة خصيصاً بغرض التشهير بالاحزاب السياسية والمدنيين ولاجل التعبئة للانقلاب .
. ولكن رغم كل ما سبق أفضل للذين يفكرون في مغامرة انقلابية أن يرجعوا البصر كرتين , لأن أي تحليل موضوعي ودقيق يفضى للاستنتاج بفشل أي مغامرة انقلابية .
. أولاً هناك شارع ثوري رغم كل خلافاته يرفض الحكم العسكري بقوة … ولن تنطلى على هذا الشارع أية دعاية عن فشل الحكم المدني , فهناك وعي سياسي كاف لدي هذا الشارع للتفريق بين فشل أي مدني من المدنيين الحاليين في السلطة وبين فشل الحكم المدني .. ويفهم الواعون سياسياً ايضا أن ما نعانيه حالياً لايمكن رده ببساطة إلى فشل حكومة حمدوك أو ق ح ت , حيث أنه بالاساس الحصاد المر لسيطرة النظم العسكرية على البلاد حوالي ثلثي سنين ما بعد استقلالها .
ورفض الحكم العسكري ليس قدحاً في العسكريين ولا تهويناً من أهمية وجود مؤسسات عسكرية مقتدرة , ولكن النظم العسكرية تضر أول ما تضر بالمؤسسات العسكرية نفسها , فهي تخشاها كما تخشى الشعب , ولذا فان الانقلابيين , كما تؤكد تجربة السودان نفسها , يضرون بالمؤسسة العسكرية , اضافة الى إضرارهم بالبلاد , وليس مصادفة ان أقوى جيوش العالم حالياً ليس جيش نظام عسكري وانما جيش دولة ديمقراطية , ولذا فالعسكريون الحريصون على مهنتهم العسكرية يجدر بهم أن يكونوا الاكثر رفضاً للنظم العسكرية . اضافة الى ان النظم العسكرية وبطبيعتها تحافظ على سلطتها بتركيز الموارد في الصرف على الأمن والرشاوي السياسية خصما علي التنمية والخدمات .
. إذن فهناك وعي سياسي , ومهما إختلطت السبل على بعض عناصر من النخبة , الا ان الشارع الثوري سيظل قائماً , مشكلاً ما يسمى بالكتلة النوعية الحرجة , وسيخرج قطعاً لمقاومة أي مغامرة إنقلابية , ولايمكن اخماد هذه المقاومة إلا بانتهاكات واسعة وجسيمة , مما سيؤدي إلى إحكام عزلة الانقلابيين الدولية , هذا في حال نجاح مغامرتهم بالاساس .
. ثانياً , ما من حيلة من الحيل يتوقع أن تغير موقف المجتمع الدولي – الغرب تحديداً – من انقلاب في البلاد .
قطعاً تفضل الولايات المتحدة – قاطرة الغرب – تطبيعاً سودانياً مع إسرائيل , ولكنها لعدة أسباب , من بينها , ضغط الراي العام الامريكي نفسه , لايمكن أن تقايض التطبيع بالانقلاب , وسبق دعت اهم حلفائها وحلفاء اسرائيل في الشرق الأوسط – حسني مبارك – للرحيل حين انكشف الغطاء الشعبي عنه .
ولم يوفر الغرب أي فرصة للاستنتاج حول موقفه , فقد ظل يكرر في بياناته المتتالية دعمه الذي لا لبس فيه للحكومة المدنية والتحول الديمقراطي . وحتى بعد لقاء برهان نتنياهو كررت الولايات المتحدة بجلاء موقفها الداعم لانتقال ديمقراطي يقوده المدنيون .
وعلى عكس ما يتصور الداعون ل ( تفويض ) الجيش , فان تأخر الغرب في تقديم الدعم المتوخى للبلاد لا يمكن رده , كما تؤكد الشواهد , لضعف الالتزام بدعم الحكومة المدنية , وانما لاسباب اخرى , من بينها , ما يراه الغرب من تمدد الأجهزة العسكرية الأمنية في الفضاء المدني , اقتصادياً وسياسياً , مما ادي لخشية مبررة بأن الدعم حالياً ربما يعزز اتجاه العسكرة بدلاً عن الانتقال الديمقراطي .
والقضية هنا لا تتعلق بمحاججة نظرية حول مبادئ الغرب , ولا عن مدى التزامه بدعم الديمقراطية في هذا البلد أو ذاك من دول المنطقة , القضية تتعلق بتحليل الواقع العياني , فالغرب وتقديراً لمصالحه ذاتها يؤكد وبقوة دعم الانتقال الديمقراطي في السودان , وهنا الدوافع ليست مهمه , انما على كل مغامر أن يحسب حسابات النتائج المترتبة . وبالتالي فان السؤال المركزي : هل ترى يستطيع الانقلاب ( التوهط ) في السلطة وهو يواجه عقوبات غربية , خصوصاً في بلد كبلادنا يعاني نقصاً في القمح والنفط , دع عنك رؤوس الاموال والتكنولوجيا ؟! سبق وجربت الانقاذ ذلك فانتهت بعد طول متاهة وبعد فوات الأوان مطأطأة الرأس وذيلها بين رجليها . ثم كان احد اسباب انهيار قواعد بنيانها عداءها للغرب وما ترتب عنه من عزلة وعقوبات .
. وقد يتهيأ للبعض أن دولاً اقليمية حليفة ربما تعدل موقف الغرب في هذا الشأن , ولكن ذلك ايضاً سبق واختبر عملياً أواخر عهد عمر البشير , وبعد فض الاعتصام ابان سيطرة المجلس العسكري , ومعروف أن من يجرب الخطأ المجرب لا يحصد سوى الريح .
. ومما يجعل من أي مغامرة انقلابية عملاً انتحارياً بامتياز , ما يجري من فترة داخل الأجهزة العسكرية الأمنية نفسها , فأقله هناك تنافس واضح بين الجيش والدعم السريع وجهاز الأمن , اضافة الى التناقض داخل جميع هذه الأجهزة ما بين الحزبيين الاسلامويين وبين العسكريين المستقلين , فاذا توحدت الارادات في بداية المغامرة الانقلابية الا انه وبديناميات السلطة العسكرية نفسها التي لا تقبل سوى الاستفراد والهرمية فالمؤكد أن يندلع لاحقاً نزاع ضار حول السيطرة , غالباً مما يؤدي الى إقتتال الأجهزة العسكرية فيما بينها , وربما إلى إنهيار السلطة المركزية . ومن هذه الزاوية فإن الانقلاب القادم في حال حدوثه لن يكون إنقلاباً على الحكومة المدنية والتحول الديمقراطي , وحسب , وإنما كذلك انقلاب على استقرار البلاد وأمنها ووحدتها .
وغدا اواصل باذنه تعالى
الحاج وراق – صحيف التغيير