انسل عن دنيانا أمس الأول رقم عصي على التكرار، ورمز فني قدم للساحة الفنية أعمالاً كاملة الروعة، وباذخة الجمال، كما أنه حمل لواء العلم والتنوير، فكان شعلة أكاديمية متقدة، قدم خلاصة معارفه الموسيقية لأجيال عديدة تدين له بالفضل من خريجي كلية الموسيقى والدراما بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، فالفنان الخالد البروفيسور عثمان مصطفى لم يكن مغنياً فحسب، ولكنه رفد الساحة بأسماء عديدة من طلابه المنتشرين داخل وخارج السودان، فكان حقاً فنان بقيمة أستاذ وباحث مهموم بالعلوم والتجديد، وأستاذ بروح عذبة وقدرات عالية وحس فني فريد.
] أغمض الفنان البروفيسور عثمان مصطفى إغماضته الأخيرة أمس، ليوارى الثرى بمقابر الرميلة حيث مسقط رأسه، وعوالم طفولته؛ ومرتع صباه، تاركاً في القلب حسرة، وعلى العين دمعة، وبالساحة الفنية فراغاً عريضاً لا يسد.
] إذا سألوك عن عناوين التميز العريضة في مسيرة الفنان البروفيسور عثمان مصطفى، فحتماً أن الأمر سهل ويسير؛ إن كنت تدرك بعض النقاط الأساسية عن مشوار، وأبعاد رحلته الفنية والأكاديمية، فالرجل نسيج وحده، وصاحب تجربة مختلفة، وحسب تقديري الخاص فإن تميزه يكمن في عدة محاور بإمكاني تلخيصها في عدد من النقاط المختصرة، و الإشارات البعيدة عبر هذه المساحة.
] النقطة الأولى تتمثل في بدايات عثمان مصطفى المختلفة، فقد كان الرجل بؤرة التقاء لكبار المبدعين، بدأ من حيث انتهى الآخرون، كيف لا، والشاب صاحب (التسعة عشر عاماً) يقف أمام لجنة الأصوات الجديدة بالإذاعة السودانية عام ١٩٦٥م بحثاً عن تأشيرة الدخول بترديده لأغنية (والله مشتاقين) التي صاغ كلماتها ساحر السهل الممتنع إسماعيل حسن، بينما وضع لها اللحن العبقري محمد وردي، وتتمثل هيبة البدايات في نقطة جديرة بالتوقف عندها، فالأغنية التي منحت عثمان مصطفى إذن الدخول للوسط الفني عبر بوابة الإذاعة كانت قد كتبت خصيصاً لوردي بتوقيع رفيقه إسماعيل حسن، وتجلت عظمة فنان أفريقيا في تنازله عنها لعثمان مصطفى مع أنه صاغ لحنها، ولو حدثت هذه القصة اليوم، لسمعنا مطالبة بعدم ترديد الأغنية، وتهديد باللجوء للقضاء، لا سيما وأن قوانين الملكية الفكرية تعتبر كلاً من الشاعر والملحن من أصحاب (الحقوق الأصيلة) اللذين يحق لهما تحديد المستفيد من منتجهما الفني، بينما المغني المؤدي وإن صعد بالأغنية لعنان السماء، فالقانون يُصنِفه صاحب (حق مجاور) لا يحق له المنح أو المنع.
] النقطة الثانية التي يجب التأكيد عليها أن نهل عثمان مصطفى من معين العمالقة لم يكن صدفة صنعتها الإطلالة الأولى، فالسعي الحثيث للمطرب الشاب وقتها للتزود برحيق التجارب المعتقة تمثل في تعاونه الفني مع الكبار بالساحة الغنائية في أعماله الخاصة لتأتي في صدر قائمتها (ماضي الذكريات) التي كتبها الشاعر الكبير الجيلي محمد صالح، وألبسها رداءً نغمياً يليق بها الجنرال موسى محمد إبراهيم، فحفظ المستمعون كلماتها عن ظهر قلب، ورددوا خلف صاحب الصوت القوي، الطروب، ثاقب النبرات :
رُحت في حالك نسيتني
واعتبرت الماضي فات
لما انت خلاص جفيتني
ليه بتحكي الذكريات؟
] النقطة الثالثة التي تستوقف الناظر لرحلة عثمان مصطفى ذات بعد مختلف تماماً، فإن كان من السهل تقديم أعمال غنائية مميزة منذ الوهلة الأولى، فمن الصعب حقاً لمطرب شاب لم يجف حبر إجازة صوته بعد، أن يكون على موعد مع التاريخ، ولكن هذا الاستثناء الفني البديع حدث مع عثمان مصطفى الذي كتب لحنجرته الخلود بمشاركته في أوبريت (قصة ثورة)، فالملحمة التي سطرها بمداد الروح الشاعر الفذ هاشم صديق، وصاغ لحنها العبقري محمد الأمين، كانت عملاً وطنياً عالي القيمة، وثّق لثورة أكتوبر المجيدة بعد أربع سنوات من اندلاعها، فغنى بجانب الموسيقار محمد الأمين كل من خليل إسماعيل، وأم بلينة السنوسي، وبهاء الدين عبد الرحمن أبو شلة، وعندما كانت أم بلينة تردد وتعيد مفردتي (قطعنا بحور .. قطعنا بحور) للتدليل على صعوبة المشوار الذي مشاه ثوار أكتوبر، كان عثمان مصطفى يصدح بصوته المجلجل ليسد آفاق المسرح القومي معززاً قيمة التضحية من أجل الوطن رغم المصاعب و(المتاريس)، فرداً على جزئية (للشمس النايرة قطعنا بحور)، تأتي حنجرته لتُقطِّر إرادة:
حلفنا نموت أو نلقى النور.
] النقطة الرابعة التي ميزت عثمان مصطفى عن غيره من زملائه الفنانين، أن الشهرة التي وجدها قبل حوالي خمسين عاماً، وذيوع اسمه، والنجومية التي حظي بها، لم تجعله أسيراً للأضواء، وباحثاً عن التواجد الدائم، فواصل مسيرته العلمية بوعي متقدم، ولم يكتف بنيل درجة البكالوريوس بعد التحاقه بمعهد الموسيقى والمسرح عام ١٩٧٤م، ورغم أنه كان وقتها مغنياً معروفاً، إلا أنه حزم حقائبه وتوجه صوب إيطاليا في بعثة دراسية للتدريب على الغناء بمعهد الموسيقى (ليشينوريفيشي) بمدينة فروزينوني لمدة عامين، وواصل مسيرته العلمية أيضاً مبتعثاً بمعهد القاهرة للموسيقى ضمن برنامج للدراسات الموسيقية فوق الجامعية، وعاد للبلاد ليغني على خشبات المسارح ليلاً، بينما يقف صباحاً لتعليم الطلاب أصول الموسيقى وعلومها، ولم يرم منديل البحث العلمي مطلقاً، فحصل عام ٢٠٠٤م على درجة الماجستير، وبعدها بثلاثة أعوام كان يحمل درجة الدكتوراه، وتواصلت بحوثه واجتهاداته، لذا كان من الطبيعي أن يحصل على درجة (الأستاذية)، فبروفيسور عثمان مصطفى قيمة فنية وقامة علمية.
] نسأل المولى سبحانه وتعالى للفنان عثمان مصطفى الرحمة والمغفرة، ولأهله، وذويه، وزملائه، وأصدقائه، ومحبي فنه الصبر والسلوان.. (إنا لله وإنا إليه راجعون).
نفس أخير
] الغروب يسألني عنك
وامسياتنا في شوق إليك
الطيور الراحلة في ضل المساء
تسأل عليك
كيف تفارق الضفة
والنيل هان عليك..؟
هيثم مصطفى – صحيفة الانتباهة