شكك صندوق النقد الدولي في نجاعة الإجراءات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة مؤخراً المتمثلة في رفع الدعم عن الوقود، وقدرتها على معالجة المشكلة الاقتصادية، رغم أن تشكيك صندوق النقد يأتي بعدما تم تنفيذ روشتة دفع بها للحكومة الانتقالية في السودان، ويبدو في الأمر أن الصندوق يحاول التملص من المسؤولية أو الالتزام حول تقديم أي دعم للحكومة. تقرير صادم وتضمن أحدث تقرير لصندوق النقد الدولي “التقرير القطري للسودان العام 2020” الذي صدر الأسبوع الماضي، أول تقييم للأوضاع الاقتصادية في السودان يصدر منذ أن طلبت الحكومة الانتقالية برنامجاً خاضعاً لمراقبة موظفي صندوق النقد.
وشكك التقرير في نجاعة الإجراءات الحكومية في تحقيق الإصلاح المرجو في ظل غياب شروط موضوعية، وتوقع صورة قاتمة في قراءته لمستقبل الأوضاع الاقتصادية في البلاد، وأبدى تحفظاً واضحاً حول جدوى الإجراءات ووصفها بأنها “صعبة ومؤلمة”، وأن القدرة على تحملها شعبياً يتسم بالهشاشة بالنظر إلى طول أمد الاختلالات الاقتصادية وبسبب ضغوط التضخم العالية وانعكاساتها، مع ضعف القدرات في إدارة الملف، وتأخر الشروع في تنفيذ الإصلاحات.
وأهم ما لفت إليه تقرير الصندوق تركيزه على تقييم مدى قدرة المواطنين على تحمّل تبعات هذه الإجراءات القاسية في ظل هذه التعقيدات، وخلص إلى نتيجة ليست في صالح نهج الحكومة الحالي في تجاهل عواقب ما أقدمت عليه دون اعتبار لمآلاته، ودون توفر الاشتراطات الموضوعية اللازمة، فقد أكد تآكل الاستعداد العام، بمعنى تراجع شعبية الحكومة، للتسامح مع “الاصلاحات المؤلمة”، مما يؤدي إلى تفاقم التوترات الاجتماعية، وتزايد الاحتقان سيؤدي بالضرورة إلى زعزعة الاستقرار السياسي، وقد يقود إلى انهيار الفترة الانتقالية الهشة أصلاً.
وبالنظر إلى التعويل الحكومي الكامل على الحلول الخارجية للأزمة الاقتصادية، فقد جاء تقييم الصندوق في تقريره بهذا الخصوص صادماً، فقد ذكر أن “أحد العناصر الأساسية لنجاح برنامج الحكومة للإصلاح هو التمويل الكافي من المانحين لدعم الانتقال الصعب إلى اقتصاد قائم على السوق يعمل بشكل جيد”، لافتا إلى “أن المساعدات المالية للسودان من قبل المانحين كانت أقل بكثير من المبالغ المطلوبة لتسهيل التكيف الهيكلي التدريجي المنظم للإصلاح الاقتصادي”، وبناء على ذلك اعتبر التقرير أن برنامج الحكومة السودانية المراقب من قبل موظفي الصندوق يواجه مخاطر عالية، بما يعني العجز عن تحقيق الهدف المرجو منه بتحقيق سجل موجب لأداء الاقتصاد الكلي وتنفيذ الإصلاحات، ضمن الشروط الأخرى لتسوية عبء الديون، وتسهيل الحصول على تمويلات خارجية.
5.4 مليار دولار عجز الموازنة ولعل أهم سؤال يواجه الحكومة ما خلص إليه موظفو الصندوق بضرورة توفر تمويل مباشر بـ 5.4 مليارات دولار للموازنة خلال 2020/2021، وهو أمر غير وارد في ظل امتناع المانحين ومؤسسات التمويل الدولية عن توفيرها، وهو ما جعل الصندوق يقر بأنه “قد تكون هناك حاجة إلى المرونة في الجداول الزمنية للإصلاح نظرًا لهشاشة الظروف الاجتماعية والاقتصادية”. عقلانية صندوق النقد وتعليقاً على ذلك، قال وزيرالدولة بوزارة المالية الأسبق بروفيسر عز الدين إبراهيم، إن صندوق النقد بهذا التقرير ظهر أعقل من الحكومة، وأشار إلى أن الصندوق هو من دفع الحكومة لتفعل ذلك، وفسر عز الدين أن الصندوق بعد أن دفع الحكومة راجع الحسابات، وتأكد أنها غير مواتية وتوقع انفجار الأوضاع، وانتقد انسياق الحكومة لتنفيذ شروط الصندوق، مشيراً إلى أنه في السابق كان الصندوق يدفع بشروطه، إلا أنه يحدث تفاوض في الأمر ويتم رفض بعض منها، والموافقة على جزء آخر، مضيفاً أن الصندوق يدفع بشروطه للسودان دون أن يدعمها بمليارات الدولارات، خلافاً لما يحدث مع الدول الأخرى، ويبرر ذلك باسم الدولة في قائمة الإرهاب بجانب ما لديه من مديونية كبيرة على السودان تبلغ ثلاثة مليارات دولار، وقال: فلماذا نحن نسمع له وننفذ شروطه طالما أنه لا يدعمنا بأموال؟!، ونبه إلى أن المهم في الأمر أن تنفذ ما تراه يناسب أوضاعك الاقتصادية ويتماشى معها، وانتقد رفع الدعم بصورة كلية ورفع سعر الصرف بطريقة خرافية وصفها بأنها إجراءات قاسية جداً، حذر من أنها تؤدي إلى انفجار، لافتاً إلى أنه واضح جداً تأثيرات ذلك بعد أن أغلقت أبواب الجامعات والداخليات لأن تكلفة مصروفات فطور ومواصلات الطالب تفوق الـ500 جنيه يومياً في وقت هنالك رب أسرة لديه 3-4 في الجامعات تفوق تكلفتهم اليومية 2 ألف جنيه.
قسوة الإجراءات واعتبر بروفيسر عز الدين حديث صندوق النقد الدولي حديثاً واقعياً باعتبار أن هذه الإجراءات لا يمكن أن تتم دفعة واحدة ودون أن تقابلها شبكة الأمان لدفع أموال للفقراء، منوهاً إلى أنه واضح أنه ليس هنالك جهاز يقوم بذلك، مبيناً أن الحكومة الحالية ولأسباب أيدلوجية تتجاهل ديوان الزكاة، وهو الذي كانت تتم الاستعانة به لتوزيع الأموال للفقراء، مشيرًا أن برنامج الأسر المتعففة تم في التسعينات، لأن دخل ديوان الزكاة كان ضعيفاً، الأمر الذي بموجبه دخلت وزارة المالية لتكمل ضعف أموال الزكاة ودفع الأموال، لأن الديوان لديه قاعدة تضمن إيصال الدعم للفقراء، وأكد أن ذلك يؤكد توقعات صندوق النقد الدولي بحدوث انفجار سياسي واجتماعي في البلد. مشكلة غير معقدة ولم يتفق د. عز الدين مع صندوق النقد بتوقعاته حدوث صورة قاتمة في السودان، وبرر ذلك بأن المشكلة رغم الصورة السيئة اقتصادياً غير معقدة ويمكن معالجتها منوهاً أن السياسيين الآن يرجعون الصورة السيئة لشيطنة النظام السابق، ويتحدثون عن تركة ثقيلة خلفها النظام السابق، وعده حديثاً لزوم التبرير للأوضاع، وعزا المشكلة إلى اختلال في التوازن الاقتصادي ككل، وهو ما ينعكس على الفقير والغني، والخلل نتيجة الإشكالات في الميزانية.
مضيفاً أن صندوق النقد دفع الحكومة للمضي في مسار وعند شعوره بأن هذه المسألة ستؤدي لفشل النظام كله حاول التملص حتى لا يتحمّل المسؤولية، واتفق مع الصندوق في أن الإجراءات الاقتصادية قاسية وجاءت في ظرف غير ملائم، فهي إجراءات حتى وإن كانت صحيحة إلا أنها جاءت في ظرف غير ملائم، وقال “ليس كل ما هو اقتصادي معقول سياسياً مقبول” مقراً بأن الإجراءات اقتصادياً معقولة ولكن سياسياً غير معقولة، وشدد على ضرورة أن تبحث الحكومة عن حلول أخرى ولا تحمل المواطن إجراءات قاسية. إيرادات مبعثرة ونوه إلى أن إيرادات الحكومة مبعثرة، فهنالك جهات في الحكومة منذ النظام السابق فيها مراكز قوى تجنب إيرادات الدولة، لافتاً إلى أن قانون الإجراءات المحاسبية يُعطي الحكومة الحق في سجن من يُجنب إيرادات مدة عشر سنوات، بيد أنه أشار إلى أن هذا القانون غير مفعل، ودعا الحكومة لفرض هيمنتها على المال العام وإيقاف التجنيب، منوهاً لوجود مؤسسات حكومية تجنب إيرادات، وقطع بأن الحكومة فشلت في جمع إيراداتها المبعثرة وتتجه للاستدانة من البنك المركزي الذي لا يملك حصائل عائدات صادر الماشية أو السمسم، وإنما يقوم بطباعة الأموال لتسليف الحكومة، وهو ما يتسبب في رفع الأسعار، وأشار إلى أن الحكومة هذا العام يُقدر بأنها استدانت 200 مليار جنيه أي (200) ترليون بالجنيه القديم، وهو ما عده يفقد الجنيه قيمته الشرائية، لذلك يرى بروفيسور عز الدين أن مشكلة الاقتصاد مقدور عليها وغير معقدة، وانتقد الحديث بأن الوسطاء والجشعين سبب المشكلة الاقتصادية، لافتاً إلى أنهم ظهروا ليستفيدوا من المشكلة وليس هم من خلقها، واعتبر أن الحكومة تعول على دعم أصدقاء السودان إلا أنه لفت إلى أن دول الخليج الآن وبعد جائحة كورونا باتت تواجه مشكلة ولا يمكنها مساعدة السودان رغم أنها أكرم من الدول الأوربية.
حلول الأزمة داخلياً ورأى برفيسور عز الدين أن الحل داخلي، مستطرداً أن وزير المالية السابق إبراهيم البدوي ورط الحكومة بزيادة الرواتب قرابة الـ600% وقطع بأنها ستكون مشكلة مستمرة لجهة أنها أصبحت حقوقاً، واقترح على الدولة أن تعلن الموظفين الذين زادت مرتباتهم بادخار إجباري على أساس أن تعطيهم زيادة رواتب مثلًا 100% وتدخر لهم الباقي بعد أن تعلمهم أن الأوضاع الاقتصادية لا تسمح بـ600% الآن، وأقر بصعوبة إجراءات رفع الدعم كما أشار لإمكانية خلط البنزين بالإيثانول لجهة أنه أرخص ما يقلل سعر البنزين، كما نبه إلى إمكانية زيادة الإنتاج للبترول بالإضافة إلى خفض الاستهلاك من خلال تحسين المواصلات وإدخال النقل النهري، وتوزيع الخدمات التي يحتاجها المواطن من استخراج جواز وغيره داخل الأحياء بحيث تكون المدن مكتفية ذاتياً، وزيادة كفاءة الخدمة المدنية لإنهاء مسألة “امشي وتعال بكرة”، كما اعتبر عز الدين أن الحل يكمن في تفعيل الخدمات الإلكترونية وقطع بأن كل هذه الإجراءات تخفف الضغط على المصروفات، واتهم الحكومة بأن إجراء بعض معاملاتها للنقد الأجنبي تسببت في رفع السعر، وقال إنه ليس من مهمة الحكومة محاربة الأسواق بل تنظيمها ودعا إلى عمل بورصة تحدد سعر الدولار بدلاً من تحديده من أشخاص ليست لهم علاقة تحت الأشجار، وظلت برندات السوق العربي عبر “يفتح الله ويستر الله”، ونادى أيضًا بإقامة بورصة الذهب وقطع بأن الحلول أعلاه يمكن أن تعالج المشكلة الاقتصادية شريطة أن “تمد الحكومة أرجلها قدر لحافها ” -على حد قوله. الانقياد للصندوق وانتقد خبراء اقتصاد وقوع السودان فريسة سهلة لسياسات صندوق النقد الدولي مع وزراء مالية خلفياتهم الوظيفية والاقتصادية من البنك الدولي ومؤسسات النقد العالمية مثل إبراهيم البدوي ودكتورة هبة محمد أحمد اللذين أصرا على تطبيق روشتة صندوق النقد الدولي، وقالوا إن السياسات الاقتصادية التي بدأت الحكومة في تنفيذها عادة ما تؤدي إلى عدم استقرار الحكم المدني وتقويض الحكومات المدنية وسرعان ما يعرقل ويقصر آجالها، وأشاروا إلى أن نظام عمر حسن أحمد البشير نفذ هذه السياسات أكثر من مرة وبسببها حصدت آلة النظام أرواح المئات من الشباب في احتجاجات 2013 بالعاصمة السودانية وحتى النظام سقط في ثورة ديسمبر على خلفية تطبيق هذه الروشتة التي لم تصمم لإفريقيا.
تمسك بالتحرير وظل وزير المالية السابق د. إبراهيم البدوي يتمسك برفع الدعم المتدرج عن الوقود والسلع الأساسية في مسعى لتطبيق شروط صندوق الدولي الذي يمنح قروضه وفق هذه الروشتة الاقتصادية لكن العقوبات الأميركية تمنع السودان من الحصول على تمويل دولي. ويحتاج السودان إلى نحو 4 مليارات دولار بشكل عاجل لسد العجز في الميزان التجاري هذا العام فيما رفض البنك الدولي إعفاء وتخفيف ديون البلاد الخارجية البالغة 60 مليار دولار ضمن التدابير التي اتخذتها المؤسسات العالمية بحق الدول الفقيرة لمكافحة فايروس كورونا ومساعدتها اقتصادياً، وتعتبر العقوبات الأميركية واحدة من العقبات التي تمنع الخرطوم من الحصول على هذه الإعفاءات التي طالت الصومال والهند.
غياب الدعم اللازم وقلل الخبير الاقتصادي د. محمد الناير الخبير الاقتصادي، من حصول السودان على قروض أو مساعدات مالية من الصندوق في الوقت الراهن، موضحاً أن تمويل الصندوق لمشاريع بالسودان بسداد الديون التي عليه للصندوق والتي تقدر تقريبا بـ 1,3 مليار دولار وبعض المديونيات الخارجية للعديد من الجهات والتي تزيد قليلاً عن 3 مليارات دولار، منوهًا أن مديونيات السودان تقدر بحوالي 60 مليار دولار، والطريق الثاني هو جدولة تلك الديون. وقطع الناير بصعوبة ما يطلبه الصندوق، مؤكداً أنها تعتمد فواتير أخرى مؤلمة مثل رفع الدعم والتي تمثل فاتورة باهظة التكاليف على الشعب السوداني، وتحرير سعر الصرف وغيرها، وقد سعت الحكومة الانتقالية وتبذل أقصى جهدها لتنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي رغم قسوتها وتعارضها مع رؤية قوى تحالف الحرية والتغيير بشكل كامل، وانتقد مضي الحكومة في تنفيذ روشتة صندوق النقد.
تحرير الوقود ونفذت الحكومة السودانية في أكتوبر الماضي تحرير أسعار الوقود، وقال وزير الطاقة والتعدين المكلف إنه تقرر زيادة أسعار الوقود المحلية لمثليها بأثر فوري، وأبلغ الوزير أن الجازولين سيباع مقابل 46 جنيهاً سودانياً (0.8364 دولار) للتر، والبنزين بسعر 56 جنيهاً للتر، فيما كان سعر البيع السابق 23 و28 جنيها على الترتيب، ويبلغ سعر لتر الجازولين التجاري 106 جنيهات و120 جنيها للبنزين وسرت الأسعار الجديدة اعتباراً من إعلانها، وانعكست الأسعار الجديدة سلباً على الأوضاع وأدت إلى تضرر المواطنين وارتفاع تكلفة المعيشة لتأثيره على مجمل مفاصل الاقتصاد على رأسها النقل.
تقرير – جمعة عبد الله
الخرطوم: (صحيفة الصيحة)