بناء نسوية لا ترغب في الصفوف ابتداءً

أثناء قراءتي لمقال الاستاذة سهام المجمر بخصوص صفوف البنزين والأدوار الاجتماعية وتراتبية القوى، وردت بخاطري العديد من الأفكار، فتوقّفت عند البعض منها وأعرضت عن الأخرى. حزنتُ وضحكتُ في نفس الوقت على تفاهة رغبة الرجال الأسطورية في السيطرة، في ظل الضائقة الاقتصادية التي تمر بها البلاد. وفكَّرت في كيفية اتفاق الحاجة الغريزية في البقاء لدى النساء والرجال بشكل متساوٍ، بيد أنها تختلف من ناحية الكم النسوي، والذي إذا تحقق، ربما يجعل من ظاهرة اغتنام الفرص داخل الأزمة نفسه كإشكال غير مرئي.

بعبارة أخرى: الرجال موجودون في الفضاء العام، ويجيدون اغتنام الفرص ولديهم مهارات في (الفهلوة)، والمحاباة، الاحتكار و(الرشى) وyou name it ؛ بينما تتضاءل فرص النساء أو يتم تحجيمها، ولكن في نهاية الأمر، وحالما توافرت هذه الفرص نفسها، فنحن لن نبارح مشكلة الصفوية الأنانية، بل أحياناً ننصرف عنها إلى ظواهر الأزمة الاقتصادية في مستوياتها الطبقية الأدنى، فتتسع الأعين لترى في الانتهازية جريمة، فندينها ونقمعها، وهنا أعني صغار مهربي الوقود والسيارات والخ..

وإنه لمن المحرج لإنسانيتنا في المواقف الصعبة هذه، أن نجد أنفسنا مُضطّرّات لكشف تناقض الثنائية بين الرجال والنساء، بينما كلاهما يحاول النجاة بطريقته.

الشيء المضحك هو الكيفية التي يُكرِّس بها الرجال طاقتهم في هذه الأثناء، لسحب قدرة النساء على الاستفادة من الفرصة المتولدة داخل الأزمة (بيع الوقود لرجال أو نساء أخريات)؛ فهنا نجد الرجال مدفوعين بالرغبة في احتكار التفكير في المجازفة نفسها، رغم أنها هي التي مكَّنتهم من السيطرة على كل ما يمكن أن يتوفر داخل أو خارج أي أزمة، غير عابئين بتحسين فرصة النماء التي تضمن فرص تحقق تكافؤ لهم حتى كرجال فقط، ولكن هذا الأمر غير مُستغرَب في أخلاق البرجوازية الأنانية بشكلٍ عام، فهي أنانية طبقية محضة.

في هذه المساحة من الشح المؤسسي، قد لا تفيد قراءة الأمر من ناحية الأثر الجندري فقط، فهو في الحقيقة انعكاس لمشكلة أكبر من أن تحل داخل هذه الثنائية وحدها، بل هو موضوع يحتاج منا النظر إلى القضية بشكل أكبر من حيث أنها قضية موارد الدولة والتمكين والفساد.

إلى جانب ذلك فلا يمكن تجاوز حقيقة أن هؤلاء الرجال هم أنفسهم، كانت مشاركتهم في الثورة ذات مطالب لا تهتمُّ بالمساواة النوعية في الأساس، بقدر ما أنهم كانوا جزعين على انحسار امتيازهم الاقتصادي الذي يُيسِّر عليهم ملء سياراتهم بالوقود. (لفهم التركيبة الطبقية داخل ميدان القيادة راجع مقال د.مجدي الجزولي في الرابط المرفق). ولعله من المؤسف أن نقول، إن هذا التباين في المطالب يجعل مواقفهم أمراً في غاية الاتساق في هذه اللحظة من ذعر الصف الطبقي. وبينما هي مطالب مشروعة، إلا أنها أيضاً تجعل القدرة على تمييز الحلفاء، ومن ثمَّ فإن التفكير في استراتيجيات تغيير مختلفة أمر مهم، فتوقع احترام النساء هنا أمر غير وارد للأسف، فهو هنا محض احترام يُجبر على اقتسام القليل وهذا أمر مُقلقٌ وغير وارد، لأننا إذا نظرنا إلى السلطة التي تتوفر للنساء، وكيف أنها هنا ستكون مماثلة للسلطة التي تحوزها القوات النظامية من الاستثناء في الحصول على الفائدة فقط! فهي ليست نابعة من توفير المساواة، ولكنها ربما برَّرَتْ بشكلٍ طارئٍ وشكلاني، لذا فليس مكتوباً لها الدوام، أو يمكننا القول بأنها ليست مكتوبة في الأساس، ولكن تم اقتلاعها في الصراع الجندري غير المتكافئ، وهكذا تم سحبها! هنا أقترح أن يذهب التفكير إلى منطقة أخرى من التمكين وطرح أسئلة قوى الرجال المؤسسة داخل القوات النظامية مقابل تجرد النساء من هذا النوع من السلطة، لنخرج من المساواة الطارئة إلى مساواة دائمة. وهذا الاقتراح، يُمكننا طرحه في مواقع أكبر من صفوف الوقود، لأنه حتى مع توافر القدرة على امتلاك بعض النساء للسيارات، لم تسمح لهن هذه الحظوة، بالمشاركة في أهم مواقع اتخاذ القرارات المصيرية مثل التفاوض والسلام ولاحقاً أيضاً ستتجلَّى بوضوح في غيابهن من صناعة الدستور أو الانخراط في بناء المشروعات الوطنية. فهل نحن نرغب في صف خاص لتيسير الحصول على السلع أم نحن نرغب في المشاركة في الحفاظ على وضمان استمرارية توفر الموارد لتفادي أزمة ندرتها عبر التفكير في أسباب نشوء الصفوف نفسها؟!

ففكرة المساواة من وجهة نظري – وقد تكون وجهة نظر غير صائبة – تنجم من توفر السلع بشكل كافٍ أولاً.

فما هي الحكمة من التساوي في صف للوصول إلى لا شيء في النهاية أو في حال أن توفر المتاح، سيكون متوفراً لقلة من الناس!

ففي معظم الدول التي تتوفر فيها السلع لا تنشأ مشكلة حيال الصفوف، لأنه لا يوجد هلع بخصوص السلعة نفسها. وحتى في حالات الكوارث، ربما يحدث الذعر كظاهرة جانبية للخوف من الكارثة نفسها وليس من شح الموارد، ولكنَّ هذا أمر قابل للتعامل معه بطرق إدارية مختلفة مثلا، ترتيب الصفوف وتخصيص الحصص المُتاح الحصول عليها، وزيادة العمال لملء الأرفف بالسلع بشكل سريع حتى تحل أزمة الصفوف؛ ولكن في حالتنا، فنحن أمام أزمة في السلعة نفسها.

وأجدني أتّفق بشكل كبير مع الرؤية الثاقبة للأستاذة سهام حول اختلاف تجاربنا الحياتية، وما يترتب عليه من نظرة النساء إلى أنفسهن في الاقتباس أدناه:

(إن التجربة الحياتية للرجال والنساء تختلف اختلافاً عظيماً بحكم مواقعهم في التراتيبة الاجتماعية، مما ينعكس على نظرتهم ومواقفهم وأفكارهم حول الحياة. وعلى الرغم من أن تصاريف صناعة النوع الاجتماعي ثمارها مُرة على الجميع إلا أن موقع الرجال (الناصية) في أعلى الهرم، وحصولهم على مميزات (الدرجة الأولى) يجعل طعم المرار لا يقارن مع أوضاع من هم في أسفله من النساء والمجموعات الأخرى المضطهدة، مما ساهم مع عوامل أخرى في تشكيل نظرتهم وموقفهم السياسي من المساواة الجندرية كمفهوم وكمطلوب للتغيير الاجتماعي نحو مجتمع عادل. في سياق المجتمعات (المحافظة) ارتبطت المساواة الجندرية بالنساء فقط دون غيرهم، نسبة لتوفر بعض من (النفاجات) المقبولة اجتماعياً للمطالبة بها (مثل الحق في التعليم وضرورة العمل)، ولتنفذ منها نضالاتهن لصنع واقع أفضل. الشيء الذي اختزل أمر المطالبة بالمساواة الشاملة للأنواع الاجتماعية متعددة الهويات؛ للمساواة بين المرأة والرجل فقط مما أسفر عن ثنائية متعارضة رجل/امرأة؛ وهي ثنائية تهمنا هنا تجلياتها في صفوف الخبز والوقود).

ولكنني أيضاً أرى أنه من الاهمية بمكان توسيع النظرة النسوية إلى القضايا بشكل يُمكِّن من الخروج من الأزمة الماثلة كقضية تهم الرجال والنساء وليس تحويلها إلى إشكال جندري واحد؛ فهي إشكاليات مركبة، وطالما أن هذه الإشكاليات مربوطة بالمورد نفسه فلن يكون مفيداً أن نتغاضى عن مشكلة الخبز والوقود لنحل مشكلة المساواة في الصفوف؛ فنحن هنا سنصل إلى مرحلة انعدام هذا المورد نفسه بالنسبة للرجال أو النساء، لكن من الأجدى أن نفكر في أزمة الوقود والخبز وتوفيرها بحيث لا تنتج أزمة الصف نفسها، وفي هذا المجال لا بد من أن نضع نصب أعيننا تأثير غياب هذه السلع الأساسية على أشخاص خارج هذه الصفوف، ولكنهم يعتمدون في نجاتهم على الاثنين. أشخاص ربما أعاقتهم إشكالات أكثر هيكلية وتعقيداً من الانضمام إلى الصف.

إضافة إلى اتفاقي مغ تحليل الأستاذة سهام للموقف من المساحة العامة والخاصة، في عبارة موجزة، ولكنها لخصت الواقع: “الوقود يعني وجود المرأة في الشارع، والخبز يعني عودتها إلى (مملكتها) في البيت”.

ورغم أن موضوع الوقود والخبز هو جزء من الإشكالات الاقتصادية الراهنة وانعكاسها على النساء هو أمر مهم لانتباه إليه وبقدر ما أنه خلق الفرصة لرؤية البعد المظالمي حول النوع؛ إلا أنها ينبغي أن تنبهنا إلى حقيقة أن هذه القضايا يجب مواجهتها بشكل جماعي عبر الضغط على الحكومة لتحسين سياساتها الاقتصادية حيال رفع الدعم؛ بدلاً عن اقتصار النظر إلى الفرصة التي تخلقها الأزمات وينتهزها الرجل، فنحن نريد وقود للجميع.

وقود يسهل التواصل ولا يخلق أزمة تتيح فرصاً للقادرين على انتهازها. نريد وقود يتيح وصول الدقيق إلى المخابز وحل أزمة الخبز وصفوفها، لا نريد الصفوف ابتداءً.

*لفهم مصطلح “القونة ما بتصفف”، راجع مقال اقتصاد الشلب، صعود القونة بعزة ماركسية – د. مجدي الجزولي.

*نقلا عن صحيفة مداميك

حكمة أحمد – صحيفة التغيير

Exit mobile version