لقد هيأ الله لي أن أكون واعيا سياسيا -من حيث العُمُر- واتحمل شخصيا قدرا كبيرا من ميزانية صرف الأسرة، ابتداء من السنوات الثلاث الأخيرة من عُمُر مايو (إذ دخلتُ حنتوب الثانوية في 1983 وكنت أعمل في كل الاجازات منذ المدرسة المتوسطة وحتى الجامعة)، فعشتُ منذ ذلك التاريخ كل الأحداث السياسية حتى غادرتُ الوطن مغتربا في العام 2009.
* بمعيار الاقتصاد، فإنّ الانقاذ كانت ثورة حقيقية إذ وجدت الخزينة خاوية، فأوجدت موارد حقيقية ملأتها أثناء الحصار دعك أن نقول: ملأتها بدون أي مساعدات مالية أجنبية. نعم فقد ملأتها حتى فاضت بسبعة عشر مليارا من الدولار احتياطا نقديا خالصا.
* ابتكرت الإنقاذ مواردا اضافية لأول مرة في تاريخ السودان الذي لم يعرف موردا نقديا غير زراعة القطن والسمسم وطق الصمغ وتصدير الحيوان حيّا وذلك منذ ذهاب المستعمر وإلى قيام الانقاذ.
* أوجدت الإنقاذ البترول ولما حسدوها فيه وفصلوا الوطن بالحرب والمكيدة والدهاء السياسي، ابتكرت الذهب، وبدأت إنشاء المسالخ واستثمار الأرض استثمارا زراعيا غير تقليدي (المحاور) كاد أن يؤتي ثماره لولا سبق سيف الحق العزل.
* ضاعفت الانقاذ طاقة وميزانية الكهرباء والتعليم والصحة والمواني وشبكات الطُرق والكباري والتصنيع الحربي وزراعة القمح …أضعافا مضاعفة.
* كاتب هذا النص لن ينسى أبدا حقيقة كون راتبه الحكومي قد بلغ ما يعادل ألف دولار (2000 جنيه) -في العام 2005- وكان يسكن في سكن حكومي باعتباره موظفا حكوميا يتمتع به كل من كان في درجته أو أدنى من ذلك. كان معظم الزملاء من هم في درجتي أو أدنى يقودون سياراتهم الخاصة وتكفيهم مرتباتهم أو تزيد. عِلما أن الأستاذ الجامعي -حينها- لم يكن متمتعا بأي خصوصية خاصة خارج اطار هيكل الخدمة المدنية إلا السكن في بعض الجامعات التي تمتلك مشاريعا سكنية لمنسوبيها. وقد تندهش لو قلت لك فقد شهدنا أساتذة مغتربين في السودان يتقاضون راتب الأستاذ السوداني وهم فرحون. وقد سألتٌ أساتذا مصريا في كلية الهندسة عن سبب مجيئه للسودان، فضحك وقال لي إنه يعتبر نفسه مغتربا يتقاضى ألف دولار شهريا وسكنا بينما راتبه في القاهرة 200 دولارا.
* بَنَت الانقاذ جيشا وشرطة وأمنا وتصنيعا حربيا شهد به العدو قبل الصديق. أقامت الانقاذ أقوى شبكة انترنت في العالم العربي والأفريقي وأصبحت جياد مدينة للصناعات الحديثة. ولا أنسى -حين اغتربتُ في الخليج في العام 2009- فقد وقفتُ على احصاءات مهولة تشير إلى رجوع السودانيين المغتربين إلى وطنهم بمعدل غير مسبوق، بينما شهد كاتب هذه السطور موت الناس في صف تأشيرة السفارة السعودية قبيل قيام الانقاذ.
بهذا المعيار الاقتصادي وحده -الذي عرفه الشعب السوداني اليوم أكثر من أي وقت مضى- كانت الانقاذ ثورة حقيقية، وكانت دولة حقيقية ذات سيادة حقيقية وقرار سياسي مستقل.
* خلال ثلاثة عقود من مسيرة الانقاذ، عجز قادتها عن تجديد دمها، فشاخت ثم ماتت بصراعات أهلها وبحماية الفساد وتوظيفه سياسيا وبارتمائها في أحضان السعودية والامارات (للأسف فإن كاتب هذه السطور كان حينها من دعاة هذا الاصطفاف الذي ظنناه قربى ثقافة وقربى عقيدة وتاريخ ومصير مشترك، وصفا واحدا ضد الدولة الصفوية التي شهدنا حقدها في سوريا واليمن وكيدها للرئيس المنتخب في مِصر لانحيازه إلى ثورة الشعب السوري). كاتب هذه السطور لم يغير رأيه السالب بعد، تجاه إيران مهما طال ظلم الأمريكان وفرنسا ومن شاكلهما على الأمة الإسلامية مجتمعة.
* ماتت الانقاذ حسرة في قلوب من كان يهمه الوطن ولا تهمه المشاريع أو المناصب أو الشخصيات الوهمية.
* لقد فقد الشعب السوداني مؤسسات راسخة كان من السهل البناء عليها، واليوم يدمرها حاقدون وجهلاء وعملاء باسم تفكيك التمكين وبعضهم يدري إنهم يفككون وطنا لصالح الأجنبي.
* في العام 2016 وحتى 2018، هيأ الله لي أن أكون في السودان شهيدا على السنوات الأخيرة التي بلغت فيها الانقاذ أوج شيخوختها وهوانها. وبينما كنتُ ارى لا محالة من ذهاب الانقاذ، بل كنتُ ومازلتُ أرى من العدل أن تذهب الانقاذ، لكنِّ لم أكن متصوَّرا قط أنها ستذهب بهذا الكيف وينتهي السودان إلى هذا البؤس الذي شفى غليل الأعداء وأبكى الأصدقاء. (كنت اتوقع التدخل الأجنبي لكن ليس بهذه البجاحة والصراحة).
* مهما يكن، فيجب ألا ييأس الوطنيون والشعب وهم يرون ما لم يكن مُتَصَوَّرا. وعليهم أن يفهموا أن الغلاء وانعدام الدواء والخدمات الضرورية، بل الجوع لا يذهب ريح الوطن إن عضوا على ما تبقى من مؤسسات بالنواجز. إنما تذهب ريح الوطن بذهاب ريح مؤسسة الجيش والشرطة والقضاء. يجب أن يقاوم ضباط وقضاة الشعب حتى يأذن الله بوقوع الفرج. يجب أن يتوحد ضباط الجيش والشرطة صفا واحدا ويقاوموا اغراءات بيعهم أفرادا. إن إنهيار هذه المؤسسات لن يتم أبدا إلا إذا دخلت الأموال جيوب الضباط وباعوا أنفسهم والوطن بحفنة دولارات أو مناصب متوهمة وكانوا عبيدا للاستخبارات الأجنبية ووكلاء الاستعمار.
* وعلى المغتربين والأسر والعشائر ومنظومات القبائل أن تمد جسور صلة الرحم في ما بينها تكاتفا وتكافلا حتى يعبر أفراد الوطن بأقل الجراح والخسائر.
* على الشباب -بمختلف توجهاتهم- أن يتجاوزوا أحقاد كبارهم ويصححوا أخطاءهم التي يعلمون، وأن يعملوا ضاغطين سويا في قلب الشعب ضد التدخل الأجنبي ومن أجل اقامة حياة سياسية قوامها التداول السلمي للسلطة القائم على الانتخابات الحرة. عليهم أن يتعظوا بالانجرار الأعمى خلف كل ناعق تبينوا خيانته. عليهم أن يصححوا خطأهم بذات سرعة وحيوية الشباب التي نصرت ثورة ديسمبر.
* إنّ ضعف الإيمان بمعيار الانتخابات الذي يفرز القيادة الشرعية للبلاد عقب أي ثورة في العالم هو السهم الذي طعن به البعض ثورة ديسمبر وخان به الوطن.
* لا يوجد أسوأ من التدخل الأجنبي، وقد حدث بدرجة لا مثيل لها منذ أن نال السودان استقلاله، لكن الأجنبي سيخيب متى كان الشعب واعيا حين يمنع العميل ووكيل العميل من حيازة هيئات الوطن التسليحية والاستخباراتية والتشريعية.
كتب د.التجاني الأمين