أثارت زيارة المدعية العامة للمحكمة الجنائية “فاستو بنسودا” إلي السودان للنظر في تسليم المعزول عمر البشير، الملاحق جنائيا من المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي انتباه الشارع السوداني في المقام الأول، ولكن تمثل الزيارة بالنسبة للضحايا وأقاربهم ومحبيهم في دارفور من قبائل الفور والزغاوة والمساليت شجوناً وهموماً وذكريات جد مُوجِعة.
وتُثير قضية البشير “العامة” العديد من التساؤلات غير مُنبتة الصلة بقضية البشير “القانونية” أمام القضاء الجنائي الدولي، فمن بين العُموميات الكثيرة مسألة فشل المشروع الإسلاموي الشعبوي في السودان بامتياز، حيث أضحت مرآة السودان المرآة السوداء العاكسة لنهب الثروات، و التنكيل بالعباد، ووأد الحقوق، وتقييد الحريات، وصار المثال الإسلاموي السوداني بجناحيه العسكري الذي قاده الإنقلابي عمر البشير، والديني الذي قادة التنظيري الترابي، النموذج الفج، والنمط الصارخ لأقبح صور الحشد والتجنيد والتجييش والتمييز تجاه بني الِجلدة والدين من المسلمين في قبائل الفور والزغاوة والمساليت.
لا جَرَم أن تناول قضية الملاحقة الجنائية للمعزول البشير وآخرين من المحكمة الجنائية الدولية تسلط الضوء علي عدد كبير من المغالطات التي تناولها نَفَر ليس بِقليل ممن اجتهدوا لسبر قضايا قانونية مثل ما هي المحكمة الجنائية الدولية، والمسؤولية الجنائية الدولية للرؤساء ومدي تمتع هؤلاء بحصانة وظيفية ومدي أسبقية اختصاص المحكمة الجنائية الدولية على القضاء الوطني للدول.
تاريخياَ، تأسست المحكمة الجنائية الدولية كأول هيئة قضائية جنائية دولية مستقلة بعد مخاض عسير بدأ في عام 1872وفقًا لاجتهاد الكُثر من الشراح حين اقترح السويسري “غوستاف موانييه “، الذي اقترح آنذاك مشروعا يتكون من 10مواد، لكن فكرته لم تجد سبيلا في هذه الحقبة، وتعددت المسارات الجنائية الدولية المؤقتة لحين انعقاد المؤتمر الحاشد في تاريخ المسيرة الإنسانية لأجل الاقتصاص من مرتكبي أشد الجرائم الدولية خطورة والتي تهدد السلم والأمن الدوليين واجتثاث شقفة الإفلات من العقاب، حيث شهدت العاصمة الإيطالية روما في عام 1998 ليلة الزينة حين تم التصويت علي النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث وافقت 120دولة علي ذلك النظام وعارضته 7 دول وامتنعت 21 دولة عن التصويت، وصارت الأردن وجيبوتي وجزر القمر وتونس وفلسطين الدول العربية الخمسة الأعضاء في نظام هذه المحكمة.
لتبيان البواعث و الأهداف من إنشاء المحكمة الجنائية الدولية والعلاقة بين المحكمة والقضاء الوطني للدول، يلزم قراءة ديباجة نظام المحكمة حيث تنص على أن “الدول الأطراف في هذا النظام الأساسي، إذ تدرك أن ثمة روابط مشتركة توحد جميع الشعوب، وأن ثقافات الشعوب تشكل معاً تراثاً مشتركاً وإذ تضع في اعتبارها أن ملايين الأطفال والنساء والرجال قد وقعوا خلال القرن الحالي ضحايا لفظائع لا يمكن تصورها هزت ضمير الإنسانية بقوة، وإذ تؤكد أن أخطر الجرائم التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره يجب ألا تمر دون عقاب وأنه يجب ضمان مقاضاة مرتكبيها على نحو فعال من خلال تدابير تتخذ على الصعيد الوطني وكذلك من خلال تعزيز التعاون الدولي.
وقد عقدت العزم على وضع حد لإفلات مرتكبي هذه الجرائم من العقاب وعلى الإسهام بالتالي في منع هذه الجرائم. وإذ تُذّكر بأن من واجب كل دولة أن تمارس ولايتها القضائية الجنائية على أولئك المسئولين عن ارتكاب جرائم دولية.
وقد عقدت العزم من أجل بلوغ هذه الغايات ولصالح الأجيال الحالية والمقبلة على إنشاء محكمة جنائية دولية دائمة مستقلة ذات علاقة بمنظومة الأمم المتحدة وذات اختصاص على الجرائم الأشد خطورة التي تثير قلق المجتمع الدولي بأسره. وإذ تؤكد أن المحكمة الجنائية الدولية المنشأة بموجب هذا النظام الأساسي ستكون مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية”.
لا ريب أن ديباجة ميثاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، فضلا عن المادة الأولى منه، قطع بأن هذه المحكمة تمارس اختصاصا تكميليا للولايات القضائية الوطنية، أي الإبقاء على اختصاص القاضي الوطني في الدرجة الأولى، إلا في الحالات التي يثبت فيها عجز أو غياب دور هذا الأخير أو عدم مصداقية الإجراءات المتخذة في ملاحقة المتهمين، وفي الحالة السودانية فسجال المحكمة الجنائية الدولية مع الحكومة السودانية بدأ منذ عام 2005.
يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره وهي جريمة الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب وجريمة العدوان. فقد تطلعت المحكمة لتطلعات المجتمع الدولي في وضع حد لفظائع هزت ضمير الإنسانية جراء ما خلفته من أعداد لضحايا لا يمكن تصورها في صفوف المدنيين من الأطفال و النساء و الرجال.
تمارس المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها بملاحقة الجرائم في الأحوال الآتية: إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام حالة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت، أو إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت، أو إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذه الجرائم.
مارست المحكمة الجنائية الولية اختصاصها في ملاحقة المعزول البشير و آخرين تأسيسا علي قرار مجلس الأمن رقم 1593، الذي صدر في عام 2005 وأحال المجلس، متصرفًا بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة “دارفور” إلي المدعي العام للمحكمة يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت.
لا يتمتع الرؤساء ورؤساء الوزارة وغيرهم من رؤساء الحكومات بالحصانة من الملاحقة القضائية، فينطبق نظام روما على جميع الأشخاص بغض النظر عن منصبهم الرسمي، كما أن أية حصانة يمكن أن يتمتع بها الشخص في دولته نتيجة لمنصبه لا تمنع المحكمة الجنائية الدولية من نسب الاتهامات إليه، والمادة 27 من نظام روما تنص صراحة على أن رؤساء الدول لا يتمتعون بالحصانة من الملاحقة القضائية.
بالنظر لأن الرئيس البشير متهم بارتكاب جرائم حرب و جرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية في دافور، يقتضي الحال تناول ما المطلوب لإثبات وقوع جرائم إبادة جماعية باعتبارها الجريمة النموذج للجرائم ضد الإنسانية، فحسب نظام روما فإن الإبادة الجماعية هي ارتكاب أفعال معينة على نطاق موسع، ويتم تنفيذها بقصد القضاء على مجموعة كلياً أو جزئياً بناء على هوية هذه المجموعة القومية أو الإثنية أو العنصرية أو الدينية. وهذه الأعمال تشمل القتل أو التسبب في إلحاق أضرار جسدية أو نفسية جسيمة، أو التسبب في أوضاع حياتية من شأنها أن تؤدي إلى الدمار البدني أو فرض إجراءات مقصود بها منع الولادات ضمن المجموعة أو إبعاد الأطفال قسراً عن الجماعة التي ينتمون إليها.
ولإثبات ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، على المدعي العام بالمحكمة الجنائية الدولية أن يُظهر أن بعض أو كل الأعمال المذكورة أعلاه قد تم ارتكابها وأنها قد ارتكبت بقصد القضاء على جزء من التركيبة السكانية.
لقد خلصت لجنة تقصي الحقائق المستقلة الدولية التي أرسلها مجلس الأمن إلي دارفور في عام 2004، ومن بعدها مكتب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية “لورانس أوكامبو” إلى أن مستويات القيادة العليا في السودان وتشمل البشير، مسؤولة عن تشكيل وتنسيق سياسة الحكومة السودانية الخاصة بمكافحة التمرد التي قامت عمداً وبشكل منهجي باستهداف المدنيين في دارفور، في خرق للقانون الدولي، وأن البشير باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة السودانية، لعب دوراً قيادياً محورياً ضمن الحملة العسكرية في دارفور، ومما لا شك فيه أن البشير كان على علم بالانتهاكات التي ارتكبتها قوات الأمن.
فمنذ مايو 2002، توافدت التقارير بوجود عشرات الآلاف من الأشخاص النازحين مع ظهور معلومات عن عشرات من الشكاوى المقدمة للشرطة وروايات صحفية وتقارير صدرت عن عدة منظمات، بما في ذلك المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، أوضحت جميعاً وجود إساءات موسعة تجري في دارفور، وإلى جانب هذه المعلومات المحددة، فإن استخدام الحكومة فيما سبق للميليشيات العرقية في نزاع جنوب السودان كان يمكن أن يُستخلص منه دليلاً دامغاً على أن هذه القوات تستهدف المدنيين دون تمييز وترتكب جرائم حرب أخرى.
ليس ثمة دليل على أن البشير أو غيره من المسؤولين الكبار بالحكومة قد اتخذوا إجراءات جدية لمنع أو إيقاف هذه الإساءات، واستمرت القوات المسلحة وميليشيات الجنجويد الموالية للحكومة في تنفيذ مثل هذه الجرائم لشهور بعد صدور التقارير الدالة عليها على نطاق موسع. وحتى بعد تشكيل البشير للجنة تقصي وطنية في الجرائم (التي ترفع تقاريرها إليه شخصياً)، تبين في الهجمات التي وقعت في ديسمبر 2004 نفس خصائص الهجمات السابقة، بما في ذلك التنسيق العسكري للجنجويد والقصف الجوي للقرى ونزوح المدنيين جماعياً وبشكل قسري.
جليّ أن تسليم البشير لعدالة المحكمة الجنائية الدولية يبدو مطلباً مُلحاً من جانب الدارفوريين على وجه الخصوص لأجل تسوية ملف السلام الدارفوري، ولكن تصطدم هذه المطالبة بتحديات عديدة داخلية وخارجية أهمها منظمة الاتحاد الأفريقي التي اتهمت المحكمة غير مرة أنها تستهدف الأفارقة، واصفةً إياها بـ”العنصرية”.
وهنا يسطع النموذج الإبداعي الذي قامت به منظمة الاتحاد الأفريقي، ولأول مرة بإنشاء ما يسمى بالمحكم الهجين في السنغال لمقاضاة الرئيس التشادي المعزول حسن حبري، فهل ينهض نموذج حسين حبري كي يكون حلاً وسطاً يتشبث به القادة السودانيون ويزيحون عن كاهلهم هذه المعضلة التاريخية التي لم تُخَبّر بها دولة عربية من قبل؟
أيمن سلامة
سكاي نيوز