* أصدر رئيس الوزراء قراراً أمس بإعفاء والي كسلا (صالح عمار) بعد حوالي ثلاثة أشهر من تعيينه (في الثاني والعشرين من شهر يوليو الماضي) في حركة تعيين الولاة المدنيين، ولم تصدر حيثيات توضح أسباب الإعفاء ما عدا ما يعرفه الجميع من اندلاع المظاهرات الشعبية الواسعة من قبيلة البجا، وما صحبها من اضطرابات أمنية ومقتل أحد ضباط الشرطة ومطالبة القبيلة بالحكم الذاتي للإقليم الشرقي احتجاجا على تعيينه باعتباره (إرتيري ) الجنسية وليس سودانياً، وهو كما نعرف أحد أبناء قبيلة البني عامر المنافسة لقبيلة البجا على زعامة الاقليم الشرقي، وهي كغيرها من القبائل ذات الانتماءات الحدودية المشتركة، لها انتماءات سودانية إرتيرية لا تخفى على احد!
* لا أريد الخوض في موضوع الانتماءات أو القبليات وما إذا كان (صالح عمار) سودانياً أو إريتريا، أو له أصول إرتيرية أو انتماء مشترك، ولا يهمني في موضوع تعيينه واعفائه سوى أمر واحد هو المعايير التي تم بها اختياره واعفاؤه بها، والطريقة التي تختار بها مراكز اتخاذ القرار الأشخاص لملء المناصب السياسية الحساسة، تفادياً لحدوث أي مشاكل او تعقيدات من أي نوع من الأنواع نحن في غنى عنها!
* دعونا أولاً نتجول قليلاً في الوثيقة الدستورية التي أعطت بموجب المادة ( 11، ج ) السلطة لمجلس السيادة باعتماد حكام الولايات بعد تعيينهم بواسطة رئيس مجلس الوزراء، شأنهم في ذلك شأن الوزراء مع وجود اختلاف بسيط وهو أن الوثيقة لم تنص على ترشيحهم بواسطة قوى الحرية والتغيير مثلما نصت على ذلك بشأن الوزراء، كما لم يرد أي نص في الوثيقة الدستورية عن الطريقة التي يفقد بها الوالي منصبه، ومن هو صاحب القرار في إعفائه، رغم أنها نصت على الطريقة التي يفقد بها الوزير منصبه وهي إعفاؤه بواسطة رئيس الوزراء واعتماد القرار بواسطة مجلس السيادة، أو سحب الثقة منه بواسطة المجلس التشريعي.
* وبما ان الوثيقة الدستورية نصت على أيلولة سلطات المجلس التشريعي في حالة غيابه إلى الاجتماع المشترك لمجلسي السيادة والوزراء فإن اختصاص سحب الثقة من الوزير يؤول تلقائياً الى المجلسين، ولكنها صمتت عن إعفاء أو سحب الثقة من الوالي وهو عيب كبير بالطبع، فمنصب الوالي منصب سياسي رفيع (مثل منصب الوزير)، كما أنه منصب في غاية الحساسية يحتم أن يكون كل شيء بخصوص تعيينه أو إعفائه منصوصا عليه بشكل واضح في الوثيقة الدستورية مثلما حدث بالنسبة لمنصب الوزير، ولكننا سنتجاوز ذلك الآن ونفترض أن (اعتماد ) إعفاء الوالي هو من اختصاص مجلس السيادة بناءً على أن اعتماد تعيينه من اختصاص المجلس حسب الوثيقة الدستورية .. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل اعتمد مجلس السيادة إعفاء والي ولاية كسلا (صالح عمار)، أم أنه أُعفي بقرار فردي من رئيس مجلس الوزراء فقط؟!
* حسب الشرح اعلاه، فإنه لا يجوز الاعلان عن إعفاء الوالي إلا بعد اعتماد الإعفاء من المجلس السيادي، مثلما يحدث في التعيين، وتنبع أهمية هذا السؤال من ضرورة التزام أجهزة اتخاذ القرار بما جاء في الوثيقة الدستورية والتقيد الحرفي بها، حتى لا تكون مثل فطيرة العريس يمكن لأى شخص أن يفتحها ويعجنها ويخبزها ويأكلها بمزاجه..!
* نأتي الآن الى ما هو أهم .. هل أُعفي (صالح) بسبب الاحتجاجات والتهديدات القبلية ورضوخ رئيس مجلس الوزراء لها، رغم النفي الحكومي والسيادي المتكرر حتى وقت قريب عن عدم وجود أي نوايا بإعفائه، أم ماذا؟!
* وإذا كان قد أعفي من منصبه خضوعاً للتهديدات القبلية، فمن الذي يضمن أن تسكت قبيلة (البني عامر) وهي قبيلة ضخمة وصاحبة نفوذ في الإقليم الشرقي عن هذا الإعفاء، أو تعيين شخص ينتمي لقبيلة البجا في المنصب الحساس الذي زادت حساسيته بعد التظاهرات القبلية والرفض البجاوي لابنها (صالح)؟!
* كل هذا يدل على أن عملية الاختيار للمناصب الدستورية والحساسة في الدولة لا تخضع لأي حسابات أو مقاييس، وبدون اعتبار للأوضاع السائدة أو أي موازنات أخرى، وعدم بذل أي جهد لمراجعة الخيارات المطروحة أو تحليل ما يمكن أن ينجم عن اختيارها بالنسبة لما هو موجود على أرض الواقع، وهو خلل كبير ونقطة ضعف واضحة في مراكز اتخاذ القرار والهيئات الاستشارية والمستشارين..!
الجريدة
زهير السراج