توطئة : التاريخ 21 مايو من العام 1991، في منطقة مدراس بالهند، رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي يخاطب تجمع انتخابي كبير ، فتاة عشرينية تحمل إكليلا من الزهور وتتحرك بخطي ثابتة نحو رئيس الوزراء، بعد لحظات تتطاير أشلاء رئيس الوزراء الهندي و معها أشلاء شخصيات قيادية في حزبه ثم يغطى الغبار و صوت الانفجار علي كل المشهد ، كانت الفتاة تربط علي وسطها حزاماً ناسفاً و نفذت بحرفية عالية عملية ( انتحارية ) .
21 مايو من العام 1983 ، انطلقت صافرات الاستعداد في العاصمة السريلانكية كولومبو ، تتحرك قوات الجيش بسرعة لتحتوي تمرداً عسكرياً محدوداً في شمال شرق الجزيرة ، تمرد أعلنته قوات نمور التأميل ، و هي حركة انفصالية من قومية التأميل تطالب بالانفصال من سريلانكا لتكون دولتها الخاصة .
في ذات عام وقبل 5 أيام فقط، أقدم العقيد جون قرنق دي ما بيور والذي تم أرساله الي الجنوب لإخماد تمرد الكتيبتين 104 و105 على أعلان عصيانه وشق طريقه الي أثيوبيا مع أكثر من 3000 جندي جنوبي ليعلن ما عرف بالجيش الشعبي لتحرير السودان.
حمل السلاح:
مرة أخرى أجهزة الإنذار تنطلق في العاصمة كولمبو، خمس طائرات مقاتلة تخلق ضجيجا هائلاً، لأنها عتيقة، ولأنها كانت تحلق على ارتفاع منخفض لتنفذ قصفاً متقناً على قاعدة جوية للجيش على أطراف المدينة، دمرت الطلعة الجوية عدد كبير من طائرات الجيش ودمرت مدرج المطار.
قبلها بثلاثة أعوام قوات تتبع لمتمردين دار فوريين تهاجم مطار الفاشر براً بمضادات الطائرات وسيارات تويوتا من طراز لاند كروزر، دمر المهاجمون عدداً كبيراً من الطائرات المدنية والعسكرية وقتلوا ضباطاً ومهندسين دفعت الدولة علي تعليمهم مليارات الجنيهات ثم أخذت قائد القاعدة الجوية المجاورة للمطار (رهينة) وغادرت لتعلن تمرداً عسكرياً على الحكومة.
الفريق المسؤول عن ألية أمن دارفور أوضح أن هذه الضربة تدل على أن المتمردين المهاجمين مدربون تدريب استثنائي ويملكون معلومات استخباراتية دقيقة، وأوضح ان الدولة ستقوم بواجبها وتطارد هؤلاء المجرمين.
في هذه اللحظة اختارت الجماعات المتمردة في دارفور أن تنقل الصراع في الأقاليم الي مستوى أعلى، اختارت أن تشل البنية العسكرية والأمنية لمدينة مركزية في دارفور، واختارت أيضاً أن تخرق القانون وان يكون (إرهاب) الخرطوم وعساكر الدولة وسيلتها لتحقيق (مطالبها)، أن تمضي في طريق خلق جنوب جديد.
أقدمت الحركات المسلحة على قطع الطرق وفرض الجبايات، ومهاجمة شاحنات الوقود وأن كانت محمية بالجيش، و فرضت إتاوات علي حركة المسافرين داخل الأقليم.
واجبات الحكومة:
مبدأ السيادة هو أساس القانون الدولي الحديث، و ينص علي أن لكل دولة سيادة علي أراضيها و شؤونها الداخلية، و مبدأ سيادة القانون يلزم الدولة بضرورة اخضاع جميع المواطنين للقانون، و حمايتهم من منتهكي القانون، ما أقدمت عليه الحركات المسلحة بالتعريف هي جرائم قتل و قطع طريق و نهب و جرائم ضد الدولة ، و يجب علي الدولة أن تفرض القانون بالقوة و هذا هو واجبها .
القوات التي هاجمت مطار الفاشر وقتلت الضباط والجنود ودمرت الطائرات الرابطة في المطار لم تترك للدولة خياراً غير أن تقاتلها، ومن حمل السلاح فقد أختار بالضرورة الطريقة التي يجب علي الدولة أن تعامله على أساسها، ولذلك لم تكن الحكومة عمليا تملك خيار غير محاربة المتمردين ومطاردتهم والتعبئة ضدهم.
وهو ما شرعت فيه الحكومتان السريلانكية والسودانية، أستمر القتال وجولات التفاوض بين العواصم المختلفة، وقعت حكومة السودان أتفاق سلام أبوجا مع مني أركو مناوي الذي أنشق عن عبد الواحد نور ودخل القصر كبيراً لمساعدي الرئيس (2006)، أما في سريلانكا فقد ظلت المفاوضات تراوح مكانها مع تعنت المتمردين الذين كانوا يرسلون نيران بنادقهم وانتحاريهم الي كولمبو باستمرار.
الحسم :
في 2007 قررت الحكومة السريلانكية أطلاق عملية ضخمة بالتعاون مع الجيش الهندي ، كان رئيس الوزراء قد وصل لقناعة بضرورة القضاء علي التمرد الذي له نفوذ في أكثر من ثلث البلد ، طردت الحكومة الصحفيين و أغلقت البلاد تماماً ، ثم أطلقت عملية عسكرية واسعة ، كانت سياسة الحكومة أنها ستطلق يد الجيش و أنها ستوفر له الحماية السياسية و الغطاء السياسي الضروري لمعركته ، كان واضحاً أن هذه المعركة ستتسبب في خسائر بشرية كبيرة من المدنيين ، لكن فلسفة الحكومة كانت أن هذا التمرد تسبب في موت عشرات الألاف من الناس و يجب أن ينتهى بأي ثمن .
في 2009 وبينما يقوم الجيش بعمليات تمشيط واسعة، تمكن من قتل قائد الحركة بارا بكاران وقادة استخباراته وقواته البحرية والجوية بعد أن كانوا قد قضوا سلفاً على قوة النمور الجوية والبحرية تماماً.
بعد ذلك تحدثت الصحافة (العالمية) عن فظائع العملية وتكاليفها، لكن كان كل شيء قد أنتهى وتغير الواقع كلياً على الأرض، من تبقى من التأميل كانوا قد أعلنوا الاستسلام رسمياً ورجحوا خيار (أسكات البنادق).
في الجانب الأخر لم تستطع حكومة البشير أن تحقق النجاح العسكري المطلوب ليس للحساسية (العرقية)، سريلانكا كانت فيها الحرب بين أثنيتين متمايزتين تماماً، المشكلة كانت في أن المؤسسة العسكرية نفسها وتحت ادعاءات القومية لم تكن قادرة على أبعاد أبناء القبائل المتمردة من الجيش، ولذلك فأنها كانت مجبرة على تبرير أفعالها باستمرار أمامهم، وفي نفس الوقت كانت عرضة لكشف كل عملياتها العسكرية ، و الأخطر من ذلك كانت عرضة للكمائن العسكرية بسبب تقديم ضباط مناطق النزاع للولاء القبلي علي الولاء للدولة ، فشل الجيش الجسيم في دارفور و عجزه عن استخدام القوة الغاشمة ذهب بالسياسيين الي خيارات صناعة (قوات نظامية موازية ) ، خيار أثبت نجاعته العسكرية على المدى الزمني القصير ، و لكنه كان خطأ استراتيجي قاتل تسبب في أزاحه ذات السياسيين ن السلطة .
الخلاصة:
البشير لم يختر الحرب، في الحقيقة خيار الحرب فرض عليه فرضاً لاعتبار أمني وهو يواجه تمرد جنوباً ولاعتبار سياسي أذ لم يكن من الممكن التساهل مع جبهة جديدة في الغرب يقود الي فتح جبهة أخرى شرقا كان خصومه يعملون على أشعالها أصلاً.
الأمر الأخر أن العمليات العسكرية لها ضحاياها، الحرب العالمية الثانية أسفرت عن 54 مليون قتيل، حرب فيتنام أسفرت عن 2 مليون قتيل، الطلعات العسكرية الأمريكية لطائرات الدرون والتي تستهدف (متشددين) في اليمن تسببت في سقوط مئات الضحايا غير المستهدفين رغم التطور التكنلوجي واستخدام الأقمار الصناعية في التوجيه، لن تستطيع أي حكومة في الدنيا أن ترد على الرصاص (بالورود).
في تقديري فأن سبب تطاول أمد الأزمة أن الحكومة السودانية لم تكن تملك الثقة بنفسها ولا القدرة على اتخاذ القرارات الجريئة وبالطبع لم تكن تملك استراتيجية للتعامل مع هذا الملف، أزمة دارفور كانت لتنتهي بسرعة لو تعاملت الحكومة بالحسم الضروري والمطلوب منذ البداية، فالحكومة كانت تفاوض وتتراجع، تحارب وتتراجع، كان الحسم العسكري ضرورياً لأنهاء التمرد نهائياً ثم تدشين عملية واسعة لرفع الضرر متزامنة مع عمل تنموي واسع، ولكنها سياسة اليوم باليوم و (مشكلة الأيادي المرتعشة).
في الختام الحرب كانت خيار الدار فوريين و جل المتحاربين كانوا أبناء الأقليم و هم من اختاروا أن يجلبوا وبال الحرب الي أهلهم ، و من الضروري أيضاً أن نضيف أن الوجدان الجنوبي منفتح جنوباً نحو شعوب شرق أفريقيا ، هذا الانفتاح و الميل الوجداني كان طبيعياً أن ينتهى الى شعور جمعي بضرورة تأسيس دولة جديدة ، و كذلك فأن الوجدان الدار فوري منفتح غرباً نحو تشاد و شعوب غرب أفريقيا ، هذا الانفتاح و الميل الوجداني كان طبيعياً أن يترجم الي خطاب مظلومية و توق الي تأسيس دولة جديدة و حاضنة خصبة لحمل السلاح في مقابل دولة جديدة تجمع الشمال و الوسط و الشرق منفتحة علي شمال أفريقيا و حوض المتوسط و تتبع لتلك المنطقة ثقافياً و لغوياً .
عبدالرحمن عمسيب
اكتوبر ٢٠٢٠