* قبل ان ابدأ تشريحي لاتفاق جوبا، لا بد ان يفهم الجميع أننى لست ضد السلام، ولكنني مع الاتفاق الذى يقود الى السلام الحقيقي حتى لو تم توظيف كل الموارد من أجله او نال البعض نصيبا في السلطة أكثر من أي فئة أخرى، ولكنني ضد أي اتفاق عبثي لا يقود إليه !
* ولا بد من الاعتراف أن غالبية مناطق السودان شهدت تهميشا كبيرا وعانى بعضها من ويلات الحروب سنوات طويلة كان ضحيتها الأبرياء، وهو بدون شك خلل عظيم لا بد من تصحيحه بأي ثمن ولا بد ان يقف ضده أي مواطن مخلص لبلده، ومن هذا المنطلق كنت أحد الذين وقفوا مع قضايا المناطق المهمشة ودافعت عنها بشراسة خلال العهد البائد، وزرت دارفور أكثر من مرة خلال أقسى فترات الحرب وكتبت الكثير من المقالات أدين فيها الجرائم البشعة التي ارتكبت مطالبا بمحاسبة مرتكبيها، وسافرت الى الولايات المتحدة مع عدد من الزملاء بدعوة رسمية من وزارة الخارجية الأمريكية للحديث عن أزمة دارفور وضرورة التدخل الدولي لوقف الجرائم والمذابح التي يتعرض لها المواطنون مما عرضني لكثير من الأذى في العهد البائد، وما زلت مدافعا عن دارفور وكل المناطق المهمشة ولن اتوقف عن ذلك مهما كان الثمن وهو أمر لا أمن به على أحد، ولكن لا بد أن أذكره قبل أن ابدأ تشريحي لاتفاق جوبا حتى لا يزايد على أحد أو يطلق ضدي اتهامات من النوع الذى يستسهل البعض إطلاقه ضد الآخرين عندما يعجز عن مواجهتهم بالمنطق والعقل!
* نشرتُ أمس تفاصيل اتفاق جوبا الذى وصفته بالعبثي، وهو في الواقع أقل بكثير من الوصف الحقيقي الذى يستحقه!
* أبدا أولا بسؤال، ما الذى يستدعى تعديل تاريخ بداية الفترة الانتقالية الى (3 أكتوبر، 2020 ) حسب نص اتفاق جوبا، بدلا عن ( 17 أغسطس، 2019 )، وتمديد الفترة الانتقالية اربعة عشر شهرا إضافيا فوق ما بقى لها من وقت وهو أكثر من عامين، يكفيان لانعقاد المؤتمر الدستوري وتحديد نوع الحكم ووضع الدستور وكل ما جاء في الوثيقة الدستورية واتفاقية جوبا من المهام الاساسية التي يجب القيام بها خلال الفترة الانتقالية، إلا إذا كان القصد من التمديد بقاء العسكر في الحكم وتحكمهم في اوضاع البلاد ورئاستهم للمجلس السيادي أطول فترة ممكنة وتأخير الانتقال الى المرحلة الديمقراطية، مقابل الامتيازات الكثيرة التي منحها اتفاق جوبا للجبهة الثورية بدون وجه حق، وعلى رأسها استثناء بعض عناصرها من النص الذى جاء في الوثيقة الدستورية بحرمان شاغلي المناصب الدستورية خلال الفترة الانتقالية من الترشح في الانتخابات القادمة، وهو استثناء ليس له مبرر إلا إذا كان إشباع نهم الجبهة الثورية في السلطة، مقابل إشباع نهم العسكر للحكم بتمديد الفترة الانتقالية، وتحقيق منفعة متبادلة للطرفين، وهو التفسير الوحيد لتمديد الفترة الانتقالية!
* المقابل الآخر الذى حصلت عليه الجبهة الثورية حسب الاتفاق هو احتكار مسار دارفور (الحركات الدارفورية المسلحة التي وقعت على اتفاق جوبا) ل 40 % من السلطة في دارفور، واحتكار مسار الشمال والوسط (بضعة أشخاص على رأسهم الجاكومى والتوم هجو) ل 10 % من السلطة في خمس ولايات هي الشمالية، نهر النيل، سنار، الجزيرة والنيل الأبيض.
* تخيلوا .. احتكار بضعة أشخاص ل 10 % من السلطة في خمس ولايات كاملة، واحتكار مسار دارفور لـ 40 % من السلطة في دارفور، و10 % لبقية الحركات الموقعة على الاتفاق (أي احتكار الجبهة الثورية لـ 50 % من السلطة في دارفور)، بينما تحصل الحكومة الانتقالية على 30 % ، وأصحاب المصلحة على 20 % ( المقصود بأصحاب المصلحة اهل دارفور) !
* بالله عليكم، بماذا يمكن وصف هذا الاتفاق .. 50 % من السلطة في دارفور لعناصر الجبهة الثورية، و20 % فقط لكل أهل دارفور الذين يقدر عددهم بحوالي 8 مليون. أهل دارفور الذين عانوا ويلات الحرب وفقدوا قراهم ومزارعهم وأموالهم وتشردوا في معسكرات النزوح واللجوء لهم فقط 20 % من السلطة، بينما لعناصر الكفاح المسلح (50 %) .. ويسمون هذا اتفاق سلام !
* المهزلة لم تنته بعد .. كيف سيتم اختيار أصحاب المصلحة (أهل دافور) للحصول على نصيبهم في السلطة، ومن الذى سيكون لديه حق الاختيار .. هل ستُفتح الوظائف الدستورية في اعلانات أم ستوضع على الكرتلة ليفوز بالوظائف من يسعفه الحظ في اختيار الصورة الفائزة ؟!
* بالطبع لن يحدث ذلك، ولكن ستكون الحركات المسلحة الموقعة على الاتفاق (مسار دارفور) هي الوصي على اهل دارفور، وهى التي ستختار مِن بينهم مَن يشغل الوظائف الدستورية إذا كانت أمينة في عملية الاختيار، بما يعنى احتكارها لـ 70 % من السلطة في دارفور، ويظل أهل دافور وأصحاب المصلحة الحقيقية في الجحيم الذى يقيمون فيه .. فهل هذا هو السلام الذى نريده ؟!
* غدا أواصل بإذن الله .. انتظروني !
الجريدة
زهير السراج