وليمة لفئران السودان !

* انتهى أمس المؤتمر الاقتصادي بإيجابياته وسلبياته، بهرجه ومرجه، بمظاهراته وهتافاته، بمحاضراته القيمة وأحاديثه الفارغة، باختلافاته واتفاقاته ..إلخ المهم أن تتحول التوصيات الى خطط وبرامج عمل وأعمال، وليس كما اعتدنا في بلادنا ان ينتهى كل شيء بتلاوة التوصيات، وكأن الغاية المنشودة من قيام المؤتمرات هي اصدار التوصيات ثم قفلها داخل الادراج!
* لو كنت المسؤول لأمرت بإخراج كل التوصيات السابقة من الأدراج ونفض الغبار عنها وقراءتها ومقاربتها مع الواقع حتى نرى ونعرف ما نفذ منها وما ظل مجرد اوراق مهترئة يحتويها دفتر أكلت ثلاثة أرباعه الحشرات، وكنت اتمنى لو كلف أحد الباحثين بتقديم ورقة عن مصير توصيات المؤتمرات التي عقدت منذ الاستقلال وحتى اليوم لنكون على هدى بمصيرها في بلادنا الغنية بمواردها التعيسة بأهلها !
* وبالمناسبة، فإن هذا المؤتمر الاقتصادي ليس (الأول) كما حمل اسمه بل ربما المئة، وهو أقل من المؤتمرات السابقة بكثير من حيث التنظيم ومستوى الاوراق والمناقشات والتوصيات، ولو قارنا بينه وبين المؤتمر الاقتصادي القومي الذى عُقد في عام 1986 بعد سقوط نظام (جعفر نميري)، أو مؤتمر أركويت الذى ظلت جامعة الخرطوم تعقده بصفه دورية كل بضع سنوات منذ أكثر من 55 عاما في كل مجالات الحياة وليس الاقتصاد فقط، لاكتشفنا الفرق الشاسع بينهما في كل شيء من حيث مستوى التنظيم والمشاركين والنقاش والأوراق وحتى لغة الحوار والانضباط، ولو رجعت اللجنة التحضيرية الى ارشيف تلك المؤتمرات إن لم تكن أكلته الفئران لاكتفت بما فيه من اوراق وتوصيات وقامت بإلغاء المؤتمر الحالي وتوجيه الأموال التي صرفت عليه في شيء أفيد !
* في كلمته أمام الجلسة الختامية للمؤتمر، أشار الدكتور حمدوك الى أن أول عمل يجب القيام به بعد انتهاء أعمال المؤتمر هو تقييم المؤتمر نفسه من كل الجوانب سواء من حيث الشكل أو المضمون، وهى نقطة مهمة تنبع اهميتها من تحديد هل كان المؤتمر في المستوى المطلوب الذى يؤهله لوضع توصيات يمكن الاعتماد عليها وتطبيقها للوصول الى نتائج مرضية، ام أن التوصيات جاءت نتيجة اوراق ومشاركات ومناقشات هزيلة، وذلك حتى لا يضيع الزمن والإمكانيات والجهود في تطبيق توصيات يتكشف للناس لاحقا اختلالها وعدم صلاحيتها، فليس كل ما يصدر من بعض المؤتمرات يعتبر صالحا للتطبيق خاصة اذا تم اعدادها على عجل ولم تسبقها الدراسات اللازمة ولم يكن المشاركون في المستوى المطلوب وكان مستوى النقاش ضعيفا وهو ما يجب أن يصل إليه التقييم المطلوب الذى يجب ان يقوم به متخصصون، ولو جاز لي أن أشارك برأي متواضع في هذا الجانب، فلقد كان الكثير من المشاركات التي استمعنا إليها خلال الجلسات المبثوثة على الانترنت او الشاشات، لا يليق بمؤتمر اقتصادي، يجب أن تقتصر المشاركة فيه على المتخصصين وصانعي السياسات فقط، وليس كل من هب ودب ليتحول الى (سوق شعبي ) يعرض فيه الباعة المتجولون بضاعتهم بالصياح والهتافات ويأتيه البعض تزجية للفراغ، وهو خلل كبير أفقد المؤتمر هيبته وأهميته وجعله سخرية للكثيرين!
* لقد كان من المحزن أن يحاول البعض في مؤتمر يفترض أن يحمل الصفة (الأكاديمية) أو (العلمية)، أو على الاقل (المهنية)، يجب ان يتناول فيه الخبراء والمختصون القضايا المطروحة بالنقاش العميق والاستماع إليها بتأن قبل الرد عليها، فرض رأيه بالهتافات والصراخ ويخرج فيه الكثيرون عن الاجندة المطروحة للنقاش، ويختلط لديهم المؤتمر بالليالي السياسية فيهرجون ويقولون ما يريدون، وتنقل هذه الفوضى الاذاعات والتلفزيونات بدون أي تنسيق مع اللجنة المسؤولة وكأننا في سوق الله أكبر، وليس في مؤتمر اقتصادي، وأخشى أن يكون ما ساد في الجلسات العامة هو نفسه الذى ساد في الجلسات الجانبية، فنكون قد أضعنا الوقت وأهدرنا المال في ما لا ينفع!
* أخيرا .. كيف لا يُسمح لرئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر بإلقاء كلمته حتى نهايتها في الجلسة الختامية، وكأنه مجرد مُعلّق يدلى برأي لإحدى القنوات الفضائية، فتقاطعه المذيعة أثناء الحديث بأن فكرته قد وصلت متعللة بانتهاء الوقت، وأخشى مع هذا الحال أن تتحول توصيات المؤتمر الى وليمة جديدة لفئران السودان!
الجريدة

زهير السراج

Exit mobile version