(البشير) يعلق على سقوط نظامه لأول مرة وبكري يسخر من الحكومة الانتقالية وصندل يطلق الـ(بارود) على قاضي القيادة .. مشاهد مُثيرة من محكمة انقلاب الانقاذ “١”
عزمي عبد الرازق
في الوقت الذي كان فيه الجنرال عبد الفتاح البرهان يفاوض سراً على ثمن التطبيع، هنالك في الخليج ” وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى” كان ثمة شاب قصير تحت جسر الحديد يفاوض سائق الأجرة على رحلة غير بعيدة، معترضاً على السعر، فقررت اصطحابه معي في طريقي، أي الشاب القصير، دون تفضل، وعبرنا شارع النيل بإتجاه الشرق، قبل أن ندلف يمين البرج الأبيض، الأبيض مجازاً لا البيت، فكانت القرود المتشاكسة المرحة تقفز من أغصان الأشجار العتيقة إلى داخل الفلل الرئاسية، التي صارت أمريكية مؤخراً، وصار جاريد كوشنير مستشار البيت الأبيض الحقيقي وبُعل نوارة آل ترامب، يتطّلع إلى الخرطوم المنهكة بالصفوف، بينما طلاب الشهادة السودانية صباح الثلاثاء كانوا على أهبة مقالدة “المواد الاختيارية” وقد احتجزوا معهم داخل غرف الامتحانات حصتنا من الأنترنت لثلاث ساعات، وتركوا البلاد كلها تسبح في فراغٍ عريض.
هبط كمال عمر من فارهة أنيقة، فمازحه المحامي محمد الحسن الأمين حين تقاطعت خطواتهما بالقول “مكنتك كبيرة يا كمال” وغادر الأمين بخِفة كما غادر مقر الشعبي حينذاك ليحتل نشرة العاشرة مساءاً ويذيع بيانه الشهير، لكن كمال الذي بدأ أقرب للسُلطة الرابعة، دافع عن حق الصحفيين في الدخول أولاً والحصول على المعلومات، وسط همهمات أصحاب الياقات السود، وحكى أيضاً، أي كمال، وسط الزحام المتعجل قصة ليست للنشر.
أُشرعت المزاليج الثلاثة، ثم الدعامات، وأسقط رتاج البوابة الحديدية لمعهد التدريب القضائي، وانزلقت حافلات السجن المعتمة، تحت ضوضاء الطائرات الهابطة، وضجيج رجال الشرطة الأمنية، حتى أنك لا تتبين من بداخل السيارات ، وكانت تغطى رؤوسهم عمامات بيضاء، وكمامات انزاحت قليلاً، وقد انسرب الضامنين في الأول، قبل نصف ساعة من دخول القاضي، المتلفح بحزم مهيب، دون أن يخلع عنه روح دعابة، تتخلل أحياناً ردوده اللاذعة، وقد تفضل بتنبيه الحضور أيضاً بأن هذه الجلسة إجرائية، وهى الأخيرة هنا، في المكان الضيق غير المرحب به، كما طلب القاضي، ولفت أنظارنا بتركيز إلى دخول الشيخ إبراهيم السنوسي صحبة الدكتور علي الحاج، أو المتهوم وفقاً لتعبير موكله، بشكل جعل السنوسي يصطدم عند دخوله بالبشير، عند الدرج الأول، فسلم عليه، بصورة توحي أنهم لا يتقابلون يومياً، وهو ما دفع القاضي للتذكير بمنع السلام والكلام أثناء الجلسة.
بندول الساعة يتأرجح وراء الجدار الضخم، ويُحدث دوياً كدقات القلب المرعوب، عند السياج الحديدي الفاصل بين المتهمين وهيئة الدفاع، لكنه لم يحجب عنا صورة المعزول برداء السجن وهو يحادث المحامي أبوبكر هاشم الجعلي، ويدنو منه، لنحو ثلاثة دقائق، كما لو أنه يريد أن يطمئن على شخصٍ ما، وعندما استفسرت الجعلي عن طبيعة تلك المحادثة الخاصة، قال أنها تتعلق بشؤون أسرية، فخمنت أنه يسأل عن حرمه “وداد بابكر” التي ترقد في إحدى مشافي الخرطوم، بعد أن سلبها الحبس المتطاول دون محاكمة، صحتها وحريتها بالطبع.
الصف الرابع من الجانب الأيسر للقاعة محجوز لأفواج “العُمد الكبار” أهل الطيب إبراهيم محمد خير، أو كما عرف نفسه لنا عند جلسات سابقات “مرفعين الليل هجام الدهاليق” وعندما نظروا إليه دبت فيهم روح الحماسة، فقابلهم بابتسامة موغلة في الطمأنينة، مردداً كقائد مجلل بالنصر “أبشروا بالخير” وقد أرخت القاعة سمعها لمرافعة شعرية بخل بها الرجل هذه المرة، وهو ما جعل الصحافة تناجي حظها عند المحامي بارود صندل الحاضر عن إبراهيم السنوسي، وقد أفلح في تركيز الأضواء حوله، بما أقام أود الفضول المتنامي، لأن تدب في المحكمة روح غير إجرائية، حيث أطلق (بارود) من بندقيته كلامات كالرصاص، ودفع شفاهة بطلب كان قد تقدم به في جلسة سابقة طاعناً بعدم الدستورية، قائلاً أن تشكيل المحكمة خالف الوثيقة الدستورية التي تمنع تشكيل محاكم خاصة، واعترض بشدة على أحد قضاة المحكمة لتواجده أمام القيادة العامة إبان الثورة المجيدة، كما وصفها، مبيناً أن القاضي المعني كان يهتف (أي كوز ندوسو دوس)، وأردف صندل انه في هذه المحكمة يمثل متهمين من كبار الكيزان والمؤسسين للحركة الإسلامية، وأن موكليه يشعرون بأن القاضي المقصود متحيزاً ضدهم، ودعاه للتنحِّي، فوراً، لكن القاضي الأول عصام الدين محمد إبراهيم قاطعه بالسؤال أكثر من مرة: من تقصد؟ إلا أن بارود لم يصرح بإسم القاضي الذي هتف في القيادة، تاركاً الجميع في حالة تكهنات سرية، عدا الذين قرروا الانضمام لطلبه من ذات هيئة الدفاع.
هاهى سماء القاعة التي سوف نرحل عنها تمطر طلبات، وذلك بعيد أن تقدم رئيس هيئة الدفاع عبد الباسط سبدرات والمحامي العائد مجدداً من غربة التكليف الخارجي سراج الدين حامد بطلبات لشطب الدعوى الجنائية لتقادمها وفقاً للمادة (٣٨)، وقد انضم لهذا الطلب عشرات المحامين، وتوحدت خلفه المنظومة الخالفة كلها تقريباً، بصورة لافتة حقاً، كما لو أنه، أي الطلب، سوف يزيح الستار عن المشهد الأخير .
وقبل أن ننتقل إلى المقر الجديد في السادس من أكتوبر المُقبل، سوف نتطرق أيضاً في حلقة ثانية إلى قصة أحد أبرز قادة سلاح المدرعات سابقاً، الذي أخفى نفسه للحيلولة دون الوصول إليه، كما نبهتنا هيئة الاتهام، وبين تلك القصة المثيرة وحال ذلك السجين المتوحد، تمكنا من الحديث مع الفريق بكري حسن صالح النائب السابق الذي كان يسابق الزمن للخروج من القاعة، دون أن يتجاهل السؤال التلقائي عن أحوالهم فقال ” نحن الحمد لله مبسوطين وراضين بقدر الله، ونقضي أوقاتنا في الذكر والرياضة” وعندما وجهت له السؤال عن رأيه في حكومة قوى الحرية والتغيير رد بسرعة ” إن شاء الله ربنا يشيل القحاتة الليلة قبل باكر” وعندما سألنا علي عثمان عن تعليقه على حديث بكري أجاب وهو مبتسم: “أنضم لهذا الطلب” .. اقتربت من البشير الذي توالت عليه مظاهر التبدل السياسي، دون أن يتخلى عن روحه الهازئة إطلاقاً، فقلت له: ما الذي جرى في (١١) أبريل ٢٠١٩ ؟ ولو أتيحت لك الفرصة للعودة للقصر مجدداً هل ستوافق؟ فكانت إجابته صادمة وغريبة .
#نواصل
عزمي عبد الرازق