الديمقراطيات الحقيقية لا تجوع
لا يخفى على الجميع أن الوضع الاقتصادي في السودان أصبح على شفا الانهيار. فما بين غياب الانتاجية واستمرار المضاربة المحلية في أسعار الدولار، فَقَد الجنيه السوداني الكثير من قيمته وارتفعت بالمقابل أسعار المواد الغذائية والتموينية وأطبق الفقر فكَّيه على رقاب الناس ليتركهم دون حولٍ أو قوة.
“كورونا ما بتقتل، تقتل صفوف العيش”
هتف أحدهم قبل أسابيع في مسيرة مناهضة للحكومة الحالية.
على الرغم من أن المناداة بتصحيح الأوضاع الاقتصادية والاهتمام بمعاش الناس هو حق مشروع، إلا أن المطلب الحقيقي لمناصري النظام السابق (أو من عُرِفوا بـ”الزواحف”) واضح وضوح الشمس، ألا وهو إسقاط الحكومة وقطع الطريق على مناصري التغيير.
على طبق من ذهب… قدّم هذا التدهور الاقتصادي لكل أعداء الثورة ذريعة يرفعونها لإثبات أن الحكومة المدنية فاشلة وأن الحكم العسكري هو الأصلح للسودان، بل وصلت الجرأة بأحدهم أن يهتف قائلا: “ضيعناك وضعنا وراك” .. قاصدًا الرئيس المخلوع ومجرم الحرب عمر البشير.
فعلى من يقع اللوم؟ وكيف بثورة أذهلت العالم بعظمتها أن تنتهي بنا إلى هذا الوضع الكارثي؟
إن تسارع الانهيار الاقتصادي إبان الفترة الانتقالية صار واقعا لا يمكن إنكاره، لكن محاولة ربط هذا الانهيار بتداول المدنيين للسلطة وبدء التحول الديمقراطي هو أبعد ما يكون عن الصواب، فالمعَّية لا تقتضي السببيَّة، كما أن العديد من الأبحاث تقول بأن الشعوب التي انتقلت إلى أنظمة حكم ديمقراطية تتمتع الآن باقتصاد أفضل ورفاهية أكثر في العيش مقارنة بنظرائهم في دول الحكم الديكتاتوري.
فأين نحن من هذا؟ أليس من المفترض أن تبدأ ملامح الفرج بالظهور شيئًا فشيئًا؟.
في كتابه “الفقر والمجاعة”، يناقش الكاتب “أمارتيا سين” الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، العلاقة بين أنظمة الحكم والأوضاع الاقتصادية، ويشدد على أنه لم تحدث مجاعة في التاريخ تحت ظل ديمقراطية سارية وحقيقية.
ويعزي هذه الظاهرة إلى ثلاثة أسباب:
الاول – أن الهدف الرئيسي للسياسيين في أنظمة الحكم الديمقراطية هو الحصول على أصوات الناخبين عن طريق إرضائهم وتحقيق مطالبهم، ويتضمن ذلك توفير الغذاء والدواء وغيره من الخدمات.
الثاني – أن الاحزاب المعارضة في الديمقراطيات تقوم بطرح برامج بديلة وتسلط الضوء على عيوب برامج الحزب الحاكم وتنتقد السياسات التي قد تفضي بالبلاد إلى مجاعة محتملة، مما قد يؤدي إلى تلافي الكارثة قبل وقوعها.
الثالث- أن الحكم الديمقراطي يرتبط بوجود قنوات إعلام تتمتع بحرية التعبير وتقوم ببث وتعرية كل ما من شأنه أن يفضي بالعباد إلى المهلكة، وبهذا تلعب دورا مهما في تشكيل الرأي العام والضغط على الحزب الحاكم.
ولنسأل مجدّدًا .. أين نحن من هذا؟ فلا خدمات ولا برامج ولا إعلام !
هل من الممكن أن ينتهي كل هذا الفقر ويبدأ الرخاء بفتح صناديق الاقتراع ودخولنا مرحلة الديمقراطية؟ ام أن أسباب التدهور ستظل موجودة؟.
إن تعقيدات الفترة الانتقالية وتواجد الأحزاب السودانية ككتلة واحدة قد يجعل من التنافس الحزبي البرامجي صعبًا في الفترة الحالية، لكننا بالإضافة إلى هذا صرنا نشهد تنافسًا حزبيا على مقاعد السلطة من دون طرح رؤية حقيقية أو برنامج واضح لما يمكن أن يقدمه الحزب المعين في المنصب المعين. وعلى الرغم من وجود قوى الحرية والتغيير كحاضنة سياسية للحكومة الحالية، نسمع تذمر بعض الأحزاب من أداء الحكومة وانتقادهم لنفس الجهة التي من المفترض أن تشكل معهم فريقا واحدًا يقود البلاد إلى بر الأمان. وما يزيد الطين بلة هو غياب المجلس التشريعي الذي من المفترض أن يؤدي دورا تشريعيا ورقابيا مهما في المرحلة الحالية.
أثبت التاريخ أنه من السهل جدا أن تنزلق الدول إلى النظم الشمولية مجددا بعد أن تبدأ رحلة التغيير، لكن تجارب العديد من الدول الآسيوية والأفريقية والأوروبية التي استمرت فيها الديمقراطية بعد نكبات عديدة تقول إن وجود أحزاب وطنية ذات برامج واضحة، ومؤسسات قوية في الدولة، ومنظمات مجتمع مدني فاعلة ترفع من وعي الشارع بالحقوق والواجبات، هي من أهم أسباب تثبيت نظام الحكم الديمقراطي.
إذن.. سيظل انزلاقنا إلى قيود الأوتوقراطية واستمرارنا في دائرة الانقلابات والثورات احتمالا واردا لن نتفاداهُ إلا بإصلاح أحزابنا السياسية وبناء مؤسسات الدولة ومنظماتها. حينها فقط تُفتَحُ الفرص وتُطرح البرامج وتشتعل المنافسة وينتعش الاقتصاد ويتوفر الخبز… فالديمقراطيات الحقيقية لا تجوع.
ما ثُرنا على زولًا واحدْ
ثُرنا على النُظُم القمعيّة ..
ثرنا على الزيف.. ما الحق أولى
ثُرنا على الغيْ.. والكضبَ الحيْ
وفساد مسؤولين الدولة
وأحكام الديكتاتوريّة
وحنظل ثائرين
لمن نبنيهو حلم باكر
ونعيش الديمقراطيّة
✍🏾 د/مروة بابكر
صحيفة الديمقراطي