الامام الصادق المهدي عن أمن البحر الأحمر
بسم الله الرحمن الرحيم
7 سبتمبر 2020
أمن البحر الأحمر ومستقبل الدولة السودانية
مقدمة
التحدي الذي يواجه أمتنا فكرياً هو كيفية الانفتاح الإيجابي على العصر دون قطيعة مع التراث، وإمكانية إقامة الدولة الوطنية المعاصرة. هذه قضايا قد تطرقت إليها في مؤلفاتي ويمكن الرجوع إليها هناك.
أما بخصوص موضوع حديثي اليوم فأبدأ بالإشادة بالأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تستضيفها جامعة الأحفاد التي استطاعت أن تحافظ على هويتها في الثلاثين عاماً الساحقة الماحقة. وأشكر مركز بحوث ودراسات دول حوض البحر الأحمر. كما أشيد بصالون الإبداع للثقافة والتنمية الذي انطلق من جذور أنصارية ثم فتح بابه لأبناء الوطن من جميع المشارب فصار لوحة قومية بحق.
بعض التقليديين يحرمون الغناء وهو موضوع تناولته في كتابي: الدين والفن. أحد افراد أسرة عريقة في الأنصارية تحول للشيوعية ولدي حضوره مشهد سماع في دارنا قال لي: لو كنتم تغنون لما تركناكم.
الحقيقة أن الإمام عبد الرحمن عليه الرضوان مثلما هو أنجح قائد ديني وفق عملياً بين التأصيل والمعاصرة كذلك كان راعياً للإبداع الفني وأغلب شعراء الحقيبة التي أسميتها الذخيرة مدحوه. كما شجع فن المسرح. وقال عبيد عبد الرحمن في مدحه هذه الأبيات:
آويتنا ودنيتنــــا وناديتنــــا بي أسمانا
ولميت شقة الفرقة القبيــــــل قاسمانا
أيادي نعمتك في كل شيء مقاسمــــــــانا
بان في وجوهنا خيرها وشارة الشرف واسمانا
كنت رجانا يا مولانا كنت عزانــــــــــا
في وجودك وجود ذاتنا وحياتنا مزانة
من بعدك نفوسنا تسربلت احزانــــــا
ومن بعدك عقولنا تحيرت وتغيرت اوزانا
سوف أتناول موضوع اليوم عبر أربع نقاط هي:
النقطة الأولى: السودان حتى انفصال الجنوب يمثل أفريقيا مصغرة وتنوعه يغري أعداءه بالكيد له لتمزيقه إلى خمس دويلات بائسة إذا لم نراع شروط وحدته وأكبر معولين لهدمها هما: الأول: النظم الديكتاتورية وأجندات الحكم الأحادية. فانتفاضات البلاد الشعبية التي وقعت أثناء العهود الاستبدادية الثلاثة، والحروب الأهلية الأربعة كذلك وقعت أثناء تلك العهود، فالدكتاتورية باستبدادها الفوقي تؤدي حتماً للمقاومة المسلحة والأهداف الانفصالية.
والمعول الثاني لهدم وحدة الوطن هو أصحاب الأجندة الشمولية الإسلاموية التي سطت على حكم البلاد وإليها يعود انفصال الجنوب والحروب الأهلية الأخرى. وكما قالت صحفية مصرية في صحيفة العالم المصرية: الجريمة انقلاب يونيو في السودان، العقوبة: انفصال الجنوب.
لقد تطرقت لعوامل هدم الوحدة الوطنية في السودان وفي كتاب بعنوان: الهوية السودانية بين التسبيك والتفكيك.
شروط الوحدة الوطنية في السودان هي: توجه فكري يوفق بين التأصيل والتحديث، ونظام سياسي ديمقراطي، ونظام اقتصادي يحقق التنمية والعدالة الاجتماعية، وميثاق سياسي يعترف بالتنوع الثقافي في البلاد، وقوات مسلحة موحدة وذات عقيدة عسكرية قومية.
إن عوامل هدم وحدة الدولة السودانية كثيرة، ولكننا سوف ننذر أنفسنا مجندين لحماية مشارع الحق وبناء مستقبل الدولة الوطنية السودانية.
لقد ساهمنا في الثورة الشعبية المجيدة ووفقنا بين الحماسة وتوازن القوى، وسوف نقيل عثرات الفترة الانتقالية العديدة عن طريق العقد الاجتماعي الجديد الذي اقترحناه وآلية تحويله لبرنامج أجندة للوطن عبر المؤتمر الأساسي المقترح. ما ضاع حق قام عنه مطالب والوعد الحق (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).
النقطة الثانية: إن وضع السودان الجيوسياسي يتطلب منه أداء دور رسالي في ثلاثة أحواض هي: حوض النيل، حوض البحر الأحمر وحوض الصحراء الكبرى. وهي أحواض العوامل فيها متداخلة هنا أتناول حوض النيل. وأقول: النيل مكون من روافد هي:
النيل الأزرق 59% من الإيراد
نهر السوباط 14%
نهر عطبرة 13%
بحر الجبل 14%
اتفاقية مياه النيل السودانية المصرية لعام 1959 قدرت أن دفع مياه النيل في أسوان يساوي 86 مليار متر مكعب، 10 مليار فاقد تبخر والباقي 76 مليار قسم بين مصر والسودان بنسبة 55.5 لمصر و18.5 للسودان.
الخطأ الذي ارتكبته تلك الاتفاقية هو استبعاد دول منابع النيل في الهضبة الإثيوبية والهضبة الاستوائية. لذلك تجمعت تلك الدول في استقطاب حاد.
في عام 1997 التقيت رئيس وزراء إثيوبيا المرحوم ملس زيناوي. قال لي لقد استبعدنا وما لم يصحح الموقف سوف نتصرف منفردين. أزعجني هذا الموقف وفي لقاء بعد أسبوع مع رئيس جمهورية مصر العربية المرحوم محمد حسني مبارك ذكرت له حديث الرئيس الإثيوبي فرد بقوله: من يمد يده للنيل سوف نقطعها. هذا الموقف وصفه نبيل فهمي وزير الخارجية المصري في المصري اليوم بتاريخ 27/7/2016 بالعجرفة وغياب التقدير الاستراتيجي.
ومن ناحيتي عكفت على حقائق الموقف في حوض النيل والفت كتابي: مياه النيل: الوعد والوعيد، وقلت فيه إن دول منابع النيل لا تعترف بقوانين النيل لعام 1902م ولعام 1929 ولعام 1959م، والواجب أن نعمل على نجاح مبادرة حوض النيل لعام 1999 وأن نحسم النقاط الخلافية فيها، وفي مقال لاحق اقترحتُ كيفية التصدي للنقاط المختلف عليها ليكون الهدف هو اتفاق كافة دول حوض النيل على قانون جديد لحوض النيل.
الخلاف حول حوض النيل أوسع من الخلاف حول سد النهضة الإثيوبي.
الموقفان المصري والاثيوبي على طرفي نقيض، وبعض الأغبياء يصرحون باحتمال الحل العسكري، ولكنني قلت وأكرر أية خطوة نحو الحل العسكري انتحارية وغير مجدية.
قدر السودان بصفته الجار لأكبر دولة منتجة لمياه النيل: أثيوبيا، وأكبر دولة مستهلكة لمياه النيل: مصر، عليه أن يتجنب الاستقطاب، وأن يعمل لتحقيق الوفاق بين كافة دول الحوض، وأن يعمل بكل قدراته للحيلولة دون استقطاب عربي/ أفريقي في حوض النيل.
الوفاق يحقق وعد النيل بما في ذلك زيادة دفق مياه النيل بتنفيذ مشروعات جونقلي الثلاثة، وبحصاد مياه الأمطار التي تهطل بمقدار ملياري متر مكعب، ولكن الذي يجري في مجرى النيل منها لا يزيد عن 80-90 مليون متر مكعب.
إذا استطاع السودان أن يحقق اتفاقاً شاملاً لحوض النيل فسوف يفتح ذلك المجال لتعاون تنموي وبيئوي وثقافي بين شعوب حوض النيل ما يحقق الهدف الواعد. ولكن إذا أخفقنا في هذه المهمة فسوف تتجه دول الحوض للأذى المتبادل ما يحقق الوعيد المؤذي لكافة الأطراف، وسوف ينعكس هذا الإخفاق سلباً على العلاقات بين ضفتي الصحراء الكبرى وهدم الوحدة الأفريقية المنشودة.
النقطة الثالثة: قال ديفيد بازلسون، المؤرخ البريطاني: “إن الكتاب الأوربيين كانوا يصفون أفريقيا جنوب الصحراء بأنها جغرافيا بلا تاريخ”، وقال: “إن الرحالة العرب هم الذين غيروا هذه الصورة وأبرزوا حقيقة العطاء التاريخي والثقافي لأفريقيا جنوب الصحراء”.
الحقيقة أن الصحراء الكبرى كانت واصلاً لا فاصلاً بين شمالها وجنوبها. والمسيحية الوطنية في الدول الأفريقية أي الأرثوذكسية كانت واحدة في كنائسها العربية والأفريقية. كذلك منذ تصدي دويلة السودان المسيحية للفتح الإسلامي وإبرام اتفاقية البقط صار انتشار الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء سلمياً، ولكن الإمبريالية الغربية أقامت في البلاد الأفريقية جنوب الصحراء وجودا ثقافياً منتمياً إليها: انقلوفونية، وفرانكفونية، ونشرت الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستنية.
الإمبريالية الغربية حرصت على العوامل التي تفرق بين أفريقيا شمال الصحراء وأفريقيا جنوب الصحراء. الدور الرسالي السوداني من واجبه العمل بكل الوسائل السلمية للتعاون بين أفريقيا شمال وجنوب الصحراء.
إن نجاح السودان في التآخي والتعاون بين مكوناته الثقافية والإثنية يؤهله للقيام بدور في التعاون المنشود بين ضفتي الصحراء الكبرى.
إذا تجنب السودان أجندات الاستبداد التي تفرضها توجهات أحادية، وتجنب أجندات الأيدلوجية الإقصائية، فإنه يؤهل نفسه لدور إيجابي بين دول أفريقيا شمال الصحراء ودول أفريقيا جنوب الصحراء. فإن فاقد الشيء لا يعطيه من باب:
يا أيها الرجل المعلم نفســه
هـــلا لنــفسـك ذا التعليـم
تصف الدواء لذي السقام وذي
الضنى كيما يطيب به وانت سقيم
النقطة الرابعة: البحر الأحمر أخدود فاصل بين جنوب غرب آسيا وشرق أفريقيا، وثروات دول جنوب آسيا لا سيما دول الخليج ودول شرق أفريقيا ذات شكل تكاملي، ففي الدول الأفريقية ثروات طبيعية هائلة وفي دول الخليج ثروات مالية هائلة.
العالم كله يعمل على استقطاب الأموال الخليجية لصالح دوله كذلك تعقد مؤتمرات قمة أفريقية أمريكية، أفريقية أوروبية، أفريقية صينية لاستثمار الثروات الطبيعية الأفريقية.
إن نجاح السودان في تحقيق الوعد في حوض النيل، وفي تطوير الإخاء العربي الأفريقي يؤهله لتبني مشروعات تكامل استثماري يزاوج بين الأموال والموارد والطبيعة.
الأموال العربية الآن توظف غالباً في الدول الغربية. شروط هذه الشركات مجحفة، وفي ثمانينات القرن الماضي كلفت لجنة الحوار الشمالي الجنوبي برئاسة المستشار الألماني السابق فيلى برانت أن يوصي بعلاقات اقتصادية عادلة بين دول الشمال ودول الجنوب. فرغت هذه اللجنة من مهامها ونشرت تقريرها لإقامة علاقات اقتصادية عادلة بين دول الشمال الغنية ودول الجنوب. ولكن التقرير أهمل. استثمار الأموال في الدول الغربية فيه مخاطر – مثلاً – المضاربة في الأوهام التي أحدثت هزة عام 2008م والتي ضاعت معها أموال عربية كثيرة.
كذلك الدول الأقوى تستطيع إملاء شروطها. لكن التعاون التنموي مع الدول الأفريقية غرب البحر الأحمر ستكون ندية وعادلة لطرفيها. إن تحقيق توافق في حوض النيل وتعاون بين شقي الصحراء الكبرى، وتكامل تنموي بين دول ضفتي البحر الأحمر مقومات تكفل عوامل موضوعية لاتفاق الدول المتشاطئة على البحر الأحمر أن تبرم اتفاق أمن وتعاون تنموي، فدول شمال الأطلسي لديها اتفاقها، وكذلك دول المحيط الهادي. والمطلوب الآن إبرام اتفاق أمن وتعاون بين دول البحر الأحمر. ولنجاح هذا الاتفاق ينبغي حدوث ثلاثة أمور فيما يتعلق بدول شرق وغرب البحر الأحمر وهي: الأول: وقف الحروب فيها فحرب اليمن يجب إنهاؤها باتفاق سلام لا سيما وقد وصلت الحرب إلى طريق مسدود مستنزف لكافة أطرافها. والأمر الثاني هو حل كافة المشاكل الحدودية بين الدول المتشاطئة على البحر الأحمر. والأمر الثالث هو إدراك المصلحة التنموية التكاملية بين ضفتي البحر الأحمر الشرقية والغربية.
تحقيق وحدة وتنمية الدولة الوطنية السودانية وقيام السودان بالمهام التي يفرضها عليه موقعه الجيوسياسي واجبات تتطلب وجود إرادة سياسية قوية يدعمها تأييد شعبي يكفل شرعيتها الدستورية. هذا هو التحدي:
إذا التف حول الحق قومٌ فإنه
يصرم أحداث الزمان ويبرم