هيبة الدولة وسطوة القبلية

كلما ذكرت مفردة (هيبة الدولة) تقفز الى ذهني الأغنية الوطنية التي صاغها شعراً المبدع الراحل محجوب شريف، وأداها بروعة كعادته المطرب الراحل محمد وردي (يا شعبا لهبك ثوريتك) والتي يقول فى خاتمتها (أرفع صوتك هيبة وجبرة.. خلي نشيدك عالي النبرة.. خلي جراح أولادك تبرا..كبروا مكان الضحكة العبرة..إلا يقينهم فيك اتماسك يا الإصرارك سطرا سطرا ملا كراسك).. وتتكرر هذه الأيام بكثافة مفردة (هيبة الدولة) وضرورة فرض هذه الهيبة المفقودة اثر نشوب عدد من النزاعات القبلية المميتة بدارفور وجنوب كردفان وشرق السودان خلفت عشرات الضحايا واتلفت الكثير من الممتلكات الخاصة والعامة، وليست هذه هي المرة الأولى التي تندلع فيها مثل هذه النزاعات القبلية المدمرة، فقد شهد العهد البائد الكثير منها على امتداد سنواته المتطاولة التي شهدت كثيراً من مثل هذه النزاعات التي تنتهي فى المحصلة بفقدان أنفس كثيرة عزيزة واتلاف الزرع وجفاف الضرع فينتشر الهلع ويعم الحزن، ومن كثرة دوران هذه النزاعات العبثية حتى أصبحت مثل دوري كرة القدم الذي تتنافس فيه الفرق الرياضية، فكنت تسمع عن نزاع قبلي دموي جرى اليوم بين القبيلة الفلانية ضد القبيلة العلانية، وغداً تسمع عن نزاع آخر، وهكذا دواليك تستمر طاحونة العنف والموت بهذا الأسلوب العبثي بين القبائل فيما بينها، بل وهناك قتال بيني داخلي يدور بين خشوم بيوت القبيلة نفسها، وكان كما هو حادث الآن كلما وقع قتال قبلي ترتفع الحناجر مطالبة ببسط هيبة الدولة، ولكن للأسف لم تتحقق هذه الهيبة التي توقف نزيف الدماء حتى اليوم، اذ كان كل الذي كانت تفعله الحكومة البائدة ومضت على دربه الحكومة الحالية، هو عقد المصالحات (القلد مثالا)، وعمليات محدودة زمنا وكيفا لجمع السلاح، ودفع الديات الى آخر هذه المعالجات المكرورة التي ثبت فشلها تماماً، اذن يبقى الخلل في مفهوم (هيبة الدولة) الذي يطبقه الحاكمون سابقاً والآن، وفي اعتقادنا ان المفهوم الصحيح لهيبة الدولة الذي يمكنها من بسط هيبتها، يعتمد على مدى نجاحها في التطبيق الصارم للقانون وفرض احترامه عن طريق الإقناع والإدماج والردع المشروع، وليس بواسطة الإكراه التعسفي والشطط في استعمال السلطات، وهي تنجح في ذلك حين تبدأ بمعاقبة الكبار المسؤولين عن ازكاء روح الفتنة قبل الصغار، وعدم التهاون في تطبيق أحكام القانون على أي كان من المتجاوزين، وهيبة الدولة تتعاظم في اللحظة التي يحس فيها المواطن مع الدولة بالأمن والأمان وبالحماية والعناية والرعاية، ويدخل في حكم ذلك الحضور الدائم للدولة وتدخلاتها السريعة في أوقات الأزمات والشدائد فى أطوارها الأولى، والهيبة العظمى للدولة هي عدم ترددها في الدفاع بكل حزم عن حرمة الوطن بأن تتصرف عبر سياساتها وخططها وممارساتها، بالشكل الذي يجلب لها الاحترام ويوطن هيبتها في نفوس المحكومين ويحوز أداءها على رضائهم، أما حكاية مجالس الصلح والديات والاحاديث الجزافية عن العلاقات التاريخية والوشائج الرحمية فهذه لم ولن تجدي فتيلا لنزع فتيل الاقتتال القبلي واجتثاثه من جذوره، كما لا يجب الركون للمبرر السهل الذي يعلق ما جرى من أحداث على رقبة النظام البائد، وذلك ببساطة لأن النظام البائد نفسه شهد العشرات من هذه الأحداث، وهو ان ولغ وضلع فيها انما يكون مستثمراً لها وليس صانعاً..
الجريدة

حيدر المكاشفي

Exit mobile version