لم أكن أجد صعوبة في الكتابة عن صديق أو زميل أو قريب رحل إلى جوار ربه، ناعياً له أو ذاكراً لمآثره. ولكن كلما أمسك القلم لأكتب عن أخي الشقيق الحبيب عبد الرحمن ابنعوف، كبيرنا وراعينا والبار بنا، يجف مداد قلمي وأعجز عن التعبير وتتوه الكلمات والجمل، بل حتى الحروف لا أستبين كيف أربطها لكي أعبر عما بداخلي من حزن وألم لفراقه، ولا أعرف كيف أربط الكلمات والجمل لأوثق لمسيرته وانجازاته وابداعاته وكيف عمر الأرض سنداً وعوناً لوالدنا ووالدتنا وكيف كان باراً بهم عندما كنا جميعاً غياب عن البلد.
عندما إتصل بي عصام من مستشفى مروي ذلك الصباح الباكر كنت أظنه يريد أن يخبرني أنهم سيتحركون إلى الخرطوم حسب الاتفاق بيننا لمزيد من التحاليل والعلاج، ولكن أتاني صوته متقطعاً قائلاً لقد رحل ابنعوف.
لم أستبن الكلمات إلا بعد برهة قائلاً إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، هل حان موعد اليقين؟؟
أكثر من خمسة وستون عاماً كلما نعود إلى البلد كان ابنعوف من أوائل المستقبلين لنا. بعد وفاة الوالد والوالدة، رحمة الله عليهم، عام 1988م أصبح هو الوالد وهو من نجده في استقبالنا، وهو راعي شئوننا بالبلد، وهو الناصح لنا والمشير علينا. فكيف لنا أن نتحمل فراقك أخي الحبيب؟؟
وكيف سيكون حالنا عندما لا نجدك في استقبالنا؟
وكيف ندخل على المكان ولا نجد الكراسة والقلم؟؟
ولمن نكتب ومن نسأل ومع من نضحك في غياب وجهك الصبوح وتعابير وجهك الصادقة؟؟
– مع من سنجلس ليحكي لنا عن الماضي القريب وعن علاقاتك الممتدة التي وثقتها على امتداد محلية مروي شرقها وغربها وما جاورها، شتول موالح ومانجو تعطي اليوم أكلها ثمار لها قيمة وأهلها يدعون لك خير الدعاء؟؟
– من الذي سيحكي لنا قصة العلاقة والمحبة بينك وبين تاج السر الجنفاوي وتاج السر ود جمال وبداية النشاط التجاري وروح الشباب التي تتدفق منكما عطاءً ومسؤولية وهمة وتفاؤلاً بالمستقبل؟؟
– من الذي سيحكي لنا في ساعة صفا الحكايات والنوادر مع أصدقائك وأندادك، إسماعيل جقلاب، ومبارك الطيب، وسيد أحمد إبراهيم ومحمد حسان، والتهامي يقول لهم حوش حوش، وبت محاري توثق الحكاية شعراً:-
– الاعيسر مرقك الرب * أصلو درب الباجور صعب.
– أمازحك أخي الحبيب أيام المشتل الذي انتشرت شتوله بأجود أنواع الموالح والمانجو على امتداد الولاية الشمالية ونهر النيل، أمازحك قائلاً لك:
– هل أنت من نفر عمروا الأرض حيثما قطنوا؟؟
– فتقول لي إنها نعمة سخرها الله لنا ونحن له شاكرين.
– وتلك الشتول اليوم تعطي أكلها خيراً لأهلها وصدقة جارية لك بمشيئة الله.
– أخي ابنعوف .. يوم رحيلك كنا نظن نحن أولاد وأحفاد علي ود وقيع الله والصادقاب والرحوماب والعواتيب، كنا نظن أن الحزن عليك يقف عندنا، ولكن وجدنا الحزن لرحيلك ممتد تجاوز القرير بأهلها وعربانها، وتجاوز محلية مروي وما جاورها، وتجاوز امتداد الوطن إلى دول المهجر.
– تحدث الناس يوم رفع الفرش يعددون مآثرك، وتحدث وداعة عكود مفصلاً لعلاقاتك بالبلد وانجازاتك وأياديك البيضاء وكيف ساهمت في تعمير الأرض بساتين خضراء، وكثير مما قاله لم نكن نعلم به، ونحن وفوق كل ذلك نشهد أنك كنت باراً بوالدنا ووالدتنا، وكانوا كثيري الثناء لك وشديدي الرضاء عليك. كنت واسطة العقد بيننا تلتقي عندك حباته وتحتمي. وكنت البار بالأسرة والحافظ لحقوقها. ونشهد أنك كنت راعياً لحقوق الأيتام و الأرامل من سواقي الصادقاب وما جاورها، وكنت قبلة للمحتاج والصرمان ولمن عليه دين ولمن يطلب المساعدة.
لقد أصبح أسلوبك في الزراعة جزء من ثقاقة القرير يقتدي به الناس في فلاحة البساتين ورعاية الشتول.
ألم يشهد لك الخال خلف الله وقد كنت ساعده الأيمن، وشهد لك الخال أحمد عبد القيوم وقد كنت له سنداً، ويدعو لك علي الأعمى وأخوانه وقد كنت راعياً لورثتهم؟ رحمة الله عليهم جميعاً.
لقد شهد لك اصحاب البساتين وقد عمروا بساتينهم من مشتلك، وشهد لك أصحاب المتر عندما جعلت طلمبات الري في متناول يدهم.
أخي الحبيب هل نستطيع أن نكون مثلك وفي مقامك عطاءً وتصدقاً؟
وهل يحافظ عادل وأخوانه على نهج حياتك وتتبع خطى مسيرتك وكسب محبة الناس كما كان يحبك الناس؟
أحسب أنهم فاعلون، فقد عجمت عودهم وكنت لهم كتاب مفتوح فنهلوا منه، وكانوا معك لم يغادر منهم أحد وأصبحوا بين أهل القرير مكان احترام وتقدير، وهم في مجال العمل العام وعون الناس رقم يقدره الناس وقد بدأوا، وستظل دارك مفتوحة بمشيئة الله.
أخي الحبيب ابنعوف ستبقى في وجداننا ما حيينا سائلين الله أن يفتح لنا مسالك عمل الخير وأن يجعلنا من المتقين المتصدقين إلى يوم اليقين، والمرضي عنهم حتى نلتقي بك في جنات النعيم، وليس ذلك على الله بعزيز.
إنا لله وإنا إليه راجعون
منفطر القلب عليك إبراهيم الرشيد
الفريق الركن إبراهيم الرشيد
الانتباهة