عالم العقار: حقائق، فقاعات وأساسيات، في السودان هناك مصدر ثالث للطلب

يندهش المراقبون كثيرا من أن العقارات في الخرطوم باهظة الثمن مقارنةً بالمدن الأخرى حول العالم التي تقدم خدمات أفضل بكثير في أوروبا أو أمريكا أو الشرق الأوسط وأفريقيا. فالعقار مثلا ارخص في القاهرة واسطنبول واسبانيا وغير ذلك من الدول بما في ذلك امريكا واوروبا.يستنتج البعض عن عجل أن أسعار العقار في الخرطوم ليست حقيقية ، لذا فهي مهددة بالانهيار.

من الناحية الاقتصادية ، يسهل تفسير أسعار العقارات في الخرطوم فهي تبدو مفهومة ومنطقية. لاستيعاب هذه النقطة ، عليك أولاً أن تدرك أن جميع الأسعار في العالم تتحدد حسب قوى العرض والطلب. لذلك بافتراض ثبات العرض ، إذا ارتفع الطلب تزداد الأسعار ، والعكس صحيح. وفي حالة ثبات الطلب ، إذا انخفض العرض ، ترتفع الأسعار. والعكس صحيح. واذا تغير العرض والطلب معا تعتمد النتيجة النهائية علي معدل التغير في كلاهما واتجاه التغير.

في معظم أنحاء العالم ، يجيء معظم الطلب على العقارات لسببين. يشتري الإنسان العقار إما لأنه يريد الإقامة فيه ، أو لأنه يريد استثمار أمواله وتحقيق ربح في شكل إيجار وزيادة سعر العقار عبر السنين. من الواضح أن هذا الطلب على الاستثمار في العقارات يرتبط بفرص الاستثمار الأخرى. لذلك إذا كان عائد الاستثمار مثلا في البورصة أكبر منه في قطاع العقارات ، فإن الشخص يفضل الاستثمار في سوق رأس المال ، وليس في قطاع العقارات.

أما في السودان ، فهناك مصدر ثالث للطلب على العقارات لا يرتبط بـالسكن أو الرغبة في الاستثمار. في السودان هناك طلب كبير على العقارات كأداة لحفظ المدخرات في مأمن من غول التضخم والسرقة أو تقلبات السياسة. لا توجد وسيلة ناجعة لحفظ المدخرات غير العقار لمن استطاع اليه سبيلا .

الكثير من الطلب على العقارات في الخرطوم يأتي من قوم لا يريدون العيش فيها أو الاستثمار فيها. فهم يشترون العقار فقط لأنه أفضل طريقة للحفاظ على مدخراتهم آمنة. والدليل على ذلك هو العدد المهول من المنازل والشقق الشاغرة أو المسكونة جزئيا وحقيقة أن معدل الربح الحقيقي على العقارات المستأجرة منخفض بشكل رهيب إن لم يكن سلبيًا.

في أنحاء العالم ، القاعدة هي أن سعر العقار ، في المتوسط ، يساوي قيمة الإيجار على مدى 20 عامًا. في الخرطوم، بـاستثناءات قليلة تتعلق بالإيجار للمجتمع الدبلوماسي ، يحتاج المستثمر لأكثر من مائة عام من الإيجار لاسترداد الثمن الحقيقي الذي دفعه لشراء العقار – محسوبا بالدولار أو بـالذهب . وهذا يعني أن القوم يشترون العقارات ليس للاستثمار ، ولكن للحفاظ على مدخراتهم في مأمن من التضخم ، خاصة أن معظمهم لا تتوفر لهم بشكل سلس الحسابات المصرفية بالعملة الأجنبية, مستقرة القيمة, داخل السودان أو خارجه.

كما ان هناك جانبا نفسيا، فالكائن السوداني مسكون بحب امتلاك العقار كطقس عبور واشهار للجدارة الاجتماعية بعد التخرج والتوظف والزواج.

كل هذا يعني أنه بالمقارنة مع بقية العالم ، في السودان يوجد طلب إضافي على العقارات كملاذ آمن للمدخرات. يغذي هذا الطلب رجال ونساء الأعمال وشرائح المهنيين العليا والمغتربون. كما قلنا أن الأسعار يتم تحديدها حسب العرض والطلب ، وبما أن العرض تقريبا ثابت أو بطيء النمو ، والطلب مرتفع ، فإن أسعار العقارات مرتفعة وستستمر في الارتفاع بالعملة المحلية. ولكن مع الزمبـبة والتضخم الانفجاري , فان أسعار العقار مقيمة بالدولار مرشحة للانخفاض التدريجي ولكن بوتيرة بطيئة إلى حد ما.

هكذا فإن ارتفاع أسعار العقارات هو الوجه الآخر للحقيقة المريعة بأن مناخ الاستثمار السوداني مسموم وتنعدم فيه الفرص. هناك عيوب شديدة في مناخ الاستثمار في الزراعة أو الصناعة أو الخدمات أو أسواق رأس المال لذلك يتم توجيه معظم الثروة الوطنية إلى قطاع العقارات الذي لا ينتج المزيد من الثروة ولا الازدهار ولا فرص العمل ولا تراكم المعرفة والتكنولوجيا. عيوب المناخ الاستثماري كلها خلقتها تخبطات جهاز دولة طفيلي ترقيعي يفتقد المعرفة العلمية لإدارة العملية التنموية. واذا توجهت جل ثروة البلد صوب العقار لعدم توفر بدائل آمنة لحفظ المال , فمن المنطقي تواصل ارتفاع اسعاره.

تركز راس المال السوداني في العقار يأتي علي حساب الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي – الزراعة والصناعة والخدمات – لان العائد فيها منخفض للغاية والمخاطر عالية.

كل هذا يعني أن أي سياسة اقتصادية عقلانية في المستقبل يجب أن يكون في اعلي سلم أولوياتها تحسين مناخ الاستثمار في الأنشطة الحقيقة وإزالة جميع العقبات الكابحة للاستثمار في الزراعة والصناعة سواء ان كان مصدرها تغول الدولة أو هشاشة القاعدة الإنتاجية الموروثة.

د.معتصم الأقرع

Exit mobile version