من قلب الحدث .. اعتصام (نيرتتي) .. يفضه شروق المطالب على أرض الواقع

لم يكن الطريق سهلاً للوصول، وكانت الآمال والتطلعات معلقة على كف القدر وعزم المسير، عند ظهيرة الأربعاء ٨ يوليو الجاري، أطلق البص صافرته الأخيرة التي جمعت بين وداع مجموعة تجمهرت وأشهرت هتافات الثورة وإعلان توجه الإعلاميين إلى ولاية وسط دارفور، قاصدين محليتها (نيرتتي) المشتعلة بالحراك السلمي، اسناداً للطالب ونقلاً لما يدور من قلب الحدث، استمر المسير لثلاثة أيام حيث كان المبيت بالطريق الدائري بين الأبيض والنهود ليلتها، من ثم المبيت بالفاشر نسبة لبعض التعقيدات وما اقتضته الضرورة الأمنية، تكحلت الأنظار بمشاهد متعددة، ونالت الأبدان نصيبها من رهق المشوار الذي خلفه تردي الطريق كان الوصول لمدينة نيالا ظهيرة الجمعة، وبعد استراحة قصيرة بها اكتمل المسير للوجهة ليلاً.. بين فتور الجسد وشبق المهنية المثير لحفيظة الاكتشاف، تزود الزملاء بزيارة ميدان الاعتصام والتعرف على لجانه ومخارجه ومداخله، وكذلك المحاذير ومخاوف أهله، وعند الصباح تكونت عديد المشاهد، (الجريدة) من قلب الحدث تحكي بعضها.

1

بعد زيارة وفد مجلس السيادة الإنتقالي نالت محلية غرب جبل مرة (نيرتتي) حظها من الإستجابة الفورية بإعفاء المدير التنفيذي للمحلية، وقائد المنطقة العسكرية، ومدير الشرطة وركن الاستخبارات العسكرية بالمنطقة، فعززت الخطوة فاعلية وقدرة الشارع على التغيير ليس في نيرتتي بل في كل بقاع السودان، ولم يعد مجالاً للشكوك حول تأثير الشارع على المشهد وانتزاع المواطن لحقوقه عبر بوابة المقاومة السلمية المضادة لكل قصور من قبل السلطة الحاكمة، الأمر الذي قد يثير القلق داخل مفاصل العمل التنفيذي على كافة مستويات الحكم، حيث لا مفر غير السعي لتحقيق مطالب المواطن.

2

بساطة المواطن الدارفوري وسماحته وقيمه المتعددة لم تنفصل عن بقية مواطني مدن وبقاع السودان الأخرى، ومع استمرار التوترات الأمنية والحرب في الفترات السابقة تكونت نظرة مجافية للواقع عن الإنسان الدارفور لدى بقية مجتمعاتنا المحلية، وكذالك المجتمع الخارجي إذ التصق العنف والمقاومة المسلحة وغيرها من الصور بمعدن إنسان هذه الجغرافيا، ولكن الواقع يعكس صورة أخرى تكمن فيها الحقيقة ويجسدها ملمح الإعتصام السلمي لأهالي منطقة نيرتتي ومساندة المناطق للمبدأ يعد مذهلاً أمام صورة العنف والحروب المربكة للآخرين.

3

صدى الأنباء في نيرتتي يحكي قصة تلاحم عريض من بقاع السودان المختلفة، فتجد في مقدمة الوفود التي تكبدت مشاق التسفار وقهرت وعورة الطرق المؤدية إلى ولاية وسط دارفور من معسكرات النازحين بشمال وجنوب وغرب دارفور، إلى جانب وصول بعض لجان المقاومة من المركز والولايات الأخرى خاصة المناطق الشرقية للبلاد، فتكون نسيجاً واحداً ينادي بمطالب المنطقة بعيداً عن المناطقية والمفاهيم العرقية والقبلية التي أسهمت في تشظي الهوية السودانية.

4

نصب مواطن المنطقة متاريسه لاستعادة العافية الكاملة لمحيطه في الطريق المؤدي لعاصمة الولاية زالنجي، وعلى مرمى نظرة من رئاسة المحلية وحامية الجيش ورئاسة الشرطة جاعلين من هذه المؤسسات الإستراتيجية المعنية بتنفيذ مطالبهم الحدود الفاصلة بينها ومحيط بؤرة التصعيد من أجل تحقيق المطالب، وفرض الاعتصام واقعه داخل بقعة السوق الذي لم يتعثر بواقع الاحتجاج، وربما ازداد إنتعاشاً بوصول وفود من خارج المنطقة.

5

لتفاعل غالبية المدن بالتضامن مع اعتصام نيرتتي وبروز اعتصامات مؤشر يضع الحكومة على فوهة قلق مستمر، ويؤكد أن لا خيار أمامها سوى تحقيق المطالب، ولا مجال للعنف ضد المواطن إن كان بتدبير السلطات أو بانفلات لمندسين الأمر الذين أصبح بمثابة مسمار جحا الذي تعلق فيه الخيبات والاخفاقات.

6

التضرع لله سبحانه وتعالى، والاقتداء بالقيم الدينية هو ديدن إنسان دارفور، فتزينت بقعة الاعتصام بمجموعة كبيرة من الرجال والشباب والصبية، افترشوا الأرض بجلابيب حملت أقمشتها البياض الناصع، يتلون آيات الذكر الحكيم، ومعيدين ختم الكتاب، في مرات متعددة منذ شروق الشمس وحتى غروبها ضبابي الشفق، وعلى بقعة أخرى نصب لجان الاعتصام مكبرات الصوت للمخاطبة ودعم المقاومة السلمية بالوعي والمعلومات المتجددة وحث المعتصمين على الاستمرار حتى تكون المطالب ملموسة على أرض الواقع، وفي الضفة الأخرى انشغل النسوة بإعداد الطعام في لمحة تؤصل لكرم إنسان المنطقة.

7

لا تزال مطالب المعتصمين معلنة رغم التغيير الذي جرى في مفاصل قيادة المحلية، معلنين استمرار الاعتصام حتى تتحقق كافة المطالب في مقدمتها تأمين الموسم الزراعي، ومنع الدراجات النارية وارتداء الكدمول، في وقت أبدت فيه القيادة العسكرية استغرابها من استمرار الاعتصام على لسان قائد ركن الاستخبارات العسكرية بالمنطقة، الأمر الذي يشيرإلى ارتفاع وعي المواطن بالحقوق، ولم تعد قرارات التغيير بمثابة مخدر لصمت مواطن ومغادرته بقعة الاعتصام، وفي الوقت الذي كان يجري قائد ركن الاستخبارات السابق تسليم ملفاته ومغادرة الموقع تم العثور على جثة مفقود بعد مضي ثلاثة أيام من الاختفاء، وقبله حادثتي قتل في أماكن متفرقة من المنطقة بحسب إفادات لجنة إعلام الاعتصام وأعيان المنطقة، فبين حيرة القيادة العسكرية واستمرار الاعتصام ومحاولات الإنفلات الأمني يضاعف مواطن المنطقة الضغوطات السلمية حتى تنال المدينة الرابضة بين حضن الندى والغيم نصيبها الكامل من الأمن والاستقرار.

صحيفة الجريدة

Exit mobile version