عبّرت خطابات مندوبي الدول الأعضاء بمجلس الأمن الدولي خلال الجلسة التي عقدت مساء أول من أمس الإثنين، حول قضية سدّ النهضة، عن حساسية الموقف المصري وتعقّده، وصعوبة تحقيق اختراق داخل المجلس إذا أصرت القاهرة على المضي قدماً في الجمع بين التفاوض تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، بما فيها من خطورة على المصالح الاستراتيجية المصرية المباشرة بسبب عدم وضوح معايير التفاوض، وإجراءاته التي تمّ الاتفاق عليها الجمعة الماضية في قمة أفريقية مصغرة، بالتوازي مع اللجوء لمجلس الأمن. وقد كشفت مواقف أعضاء الأخير عن تذبذب واضح واتجاه للنأي بأنفسهم عن الصراع، مكتفين بالدعوة لاستمرار التفاوض الودي والالتزام بأن يكون النيل مصدر تعاون لا مصدر خلاف، وغيرها من العبارات الدبلوماسية التي كانت مصر تأمل بأكثر منها.
وأكدت الخطابات دقة ما نشره “العربي الجديد” السبت الماضي من كواليس لاتصالات التفاوض والتنسيق التي أجرتها مصر وإثيوبيا بدول المجلس، وممثلي الكتل الأساسية والتجمعات الإقليمية بالجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ جاءت الصين، العضو الدائم بمجلس الأمن، على رأس مجابهي الموقف المصري من دون أن تعلن ذلك صراحة، ولكن خطابها كان يهدف أكثر من غيره إلى إجهاض مشروع القرار الذي ترغب مصر في استصداره بدعم أميركي، حيث طالبت بعدم اعتبار جلسة مجلس الأمن لمناقشة أزمة دولية على المياه العابرة “سابقة يمكن تطبيقها مستقبلاً”. وهو ما شرحت مصادر “العربي الجديد” أسبابه سابقاً بأنّ الصين لديها بالفعل العديد من المشاكل الحدودية والسيادية المتعلقة بمناطق تشقها الأنهار، مما يجعلها تتخوف من أن تساهم اليوم في إرساء قواعد للتدخل الأممي لحل مثل هذه المشكلات، ولذلك فهي تفضل دائماً الترويج لفكرة حرصها على إجراء حوار خاص بين أطراف النزاع للتوصل إلى قواعد إطارية خاصة، بعيداً عن مجلس الأمن، كما تسعى هي حالياً لفرض الأمر الواقع في نزاعها الحدودي مع الهند.
جاءت الصين على رأس مجابهي الموقف المصري من دون أن تعلن ذلك صراحة
وكشفت مصادر دبلوماسية مصرية أنّ وزير الخارجية الصيني وانغ يي أبلغ نظيره المصري سامح شكري بموقف بلاده صراحة قبل ساعات من عقد الجلسة، ودعاه لأن تسحب مصر شكواها من مجلس الأمن لما تمثله من خطورة على مستقبل العديد من النزاعات التي قد تنشأ لدى الصين وروسيا وغيرهما من الدول، ملوحاً بإمكانية لعب الصين دوراً وسيطاً لحل الأزمة ودياً. وهو ما رد عليه شكري بأن مصر متمسكة بالسير في طريقي مجلس الأمن والمفاوضات معاً، حتى تضمن جدية الإثيوبيين الذين سبق لهم التلاعب وإهدار فرص الوساطات والمفاوضات أكثر من مرة طوال عقد كامل.
أزمة سد النهضة: انفراجة مشروطة وبيانات متناقضة
وذكرت المصادر أنّ الصين تواصلت أيضاً مع رئاسة مجموعة الـ77 النامية (والتي تضم بين أعضائها الصين ومصر وإثيوبيا والأعضاء الحاليين بمجلس الأمن جنوب أفريقيا وتونس والنيجر والدومينيكان وإندونيسيا وساو تومي وفيتنام)، إذ استقر رأي معظم دول تلك المجموعة على دعم الموقف الإثيوبي، لكن الاتصالات المصرية المباشرة بجميع الدول الأعضاء بمجلس الأمن نجحت في استقاء مواقف جيدة لصالح مصر من كل من الدومينيكان وإندونيسيا وفيتنام، فضلاً عن بريطانيا والولايات المتحدة. وهي الدول التي تحدثت صراحة عن ضرورة وقف أي أعمال أحادية من شأنها تعقيد الأوضاع، والمقصود بذلك ضرورة امتناع إثيوبيا عن الملء الأول للسد لحين التوصل إلى اتفاق شامل.
بيد أنّ الموقف الأوروبي الذي اكتفى بدعم ممثلي القارة الأفريقية بالمجلس، لناحية استمرار المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، ظهر أضعف بكثير مما كانت مصر تطمح إليه وتبدو قياداتها الدبلوماسية واثقة من تحقيقه، إذ لم تصدر أي عبارات حاسمة من ممثلي فرنسا وألمانيا وإستونيا وبلجيكا على الرغم من الاتصالات المستمرة بين القاهرة وعواصم تلك الدول وإبداء تفهمها أكثر من مرة للمطالبات المصرية.
وعزت المصادر الدبلوماسية ذلك الأمر إلى عاملين اثنين؛ أولهما ما تناولته خطابات السودان والاتحاد الأفريقي وجنوب أفريقيا من التوصل بالفعل إلى حلول لأكثر من 90 في المائة من المشكلات العالقة، وهي عبارة لا يجد المصريون أي مبرر لتكرارها في ظلّ استمرار الخلاف على مسائل رئيسية سواء فنية أو قانونية. وبحسب المصادر، فإنّ هذا كان الدافع وراء تطرق وزير الخارجية المصري في خطابه إلى مسألة الكفاءة الفنية لسدّ النهضة وسلامته الإنشائية للمرة الأولى، فلم يسبق لمصر أن أشارت إليها باعتبارها نقطة تمّ حسمها أكثر من مرة بتقارير المكاتب الاستشارية، لكنها طرحت أخيراً من قبل السودان في إطار مطالبة الخرطوم لأديس أبابا بالاتفاق أولاً قبل الملء، باعتبار أن أي عيوب إنشائية في السد سوف تضرّ السودان قبل أي طرف آخر.
الموقف الأوروبي ظهر أضعف بكثير مما كانت مصر تطمح إليه
أمّا العامل الثاني، فهو الخطابات الجديدة التي رفعت للمجلس بشأن الاتفاق على استئناف المفاوضات، وبالتالي ارتأت دول عدة ضرورة إعطاء الفرصة لجهود الاتحاد الأفريقي، انطلاقاً من الموقف الأوروبي المتحرّج دائماً في السنوات الأخيرة من التدخل في نزاعات تحت مظلة منظمات إقليمية كبيرة.
وليس هذا الأثر السلبي الوحيد للقمة الأفريقية المصغرة الجمعة الماضية على الموقف المصري، فعلى الرغم من الخطاب المصري المتماسك أمام مجلس الأمن والمليء بالحجج المنطقية والاستشهادات القانونية والفنية السليمة، إلا أنّ ممثل إثيوبيا طرح على الحضور مسألة سير مصر في المفاوضات الأفريقية وشكوى مجلس الأمن بالتوازي، كصورة للازدواج السياسي وسوء النوايا. وهو أمر يخالف الواقع، لأنّ مصر تمسكت في القمة الأفريقية بضرورة استمرار مجلس الأمن في طريقه لدراسة القضية، وأبلغت جميع الأطراف بذلك في حينه، لكن إثيوبيا استغلّت مظلة الاتحاد الأفريقي كفخ للمزايدة على مصر وإظهار أنها تتعمد التصعيد.
مصر وسد النهضة…الضغط من باب الممولين
وهناك أثر سلبي آخر لقبول مصر التفاوض في إطار الاتحاد الأفريقي، يتمثّل في عدم وضوح خريطة طريق للإجراءات في هذا الشأن حتى الآن. فبحسب البيان الصادر عن القمة المصغرة، من المفترض أن يتم إعداد تقرير مشترك حول المسائل الفنية والقانونية العالقة وإرساله لرئيس جنوب أفريقيا والاتحاد الأفريقي سيريل رامافوزا نهاية الأسبوع الحالي، ثمّ التفاوض المكثف لأسبوع أو اثنين بعد ذلك، وصولاً إلى حلّ نهائي والتوقيع على صياغة متفق عليها من الجميع. وبحسب مصادر دبلوماسية وفنية مصرية، فلم يتم تحقيق أي تقدم في هذا السياق، بل إنّ اللجان الفنية المصرية انشغلت أخيراً في إعداد تقرير فني كبير لتقديمه قبل نهاية الأسبوع إلى الدول الأعضاء بمجلس الأمن لشرح النقاط التي طلبوا استيضاحها في الوثائق التي قدمتها مصر مرفقة بخطاب الشكوى.
وأوضحت المصادر الفنية أنّ الاتفاق على استئناف المفاوضات بهذه الصورة الهشة وبرقابة الاتحاد الأفريقي غير المتعاطف مع مطالب مصر على الإطلاق “يتسبب في حالة من التشاؤم بين المفاوضين واللجان الفنية بوزارة الري”، وكذلك بين المستشارين والخبراء الذين يعدون تقارير الموقف المصري في الإطار القانوني، والذين باتوا متأكدين من أنّ “إثيوبيا ترغب بشتى السبل في التهرب من أمرين اثنين: أن يكون الاتفاق إلزامياً لها، وأن يتضمن الاتفاق بنداً ينظّم فضّ المنازعات باللجوء للتحكيم الدولي أو الإقليمي”.
استئناف المفاوضات برقابة الاتحاد الأفريقي غير المتعاطف مع مطالب مصر يتسبب في حالة من التشاؤم بين المفاوضين واللجان الفنية بوزارة الري المصرية
واستطردت المصادر بأنّ إثيوبيا تتمسّك بالاتحاد الأفريقي ليس فقط بسبب التعاطف والعلاقات القوية بين الطرفين، ولكن لأنّ لديها تصوراً بأنه يمكنها الزجّ بمادة في الاتفاق تجعل من الاتحاد الأفريقي مرجعية توفيقية “دبلوماسية” في حالة الخلاف مع مصر والسودان، وهر أمر ترفضه الدولتان اللتان تتمسكان بتنظيم آلية “قانونية” واضحة للتحكيم على ضوء الاتفاق الملزم المزمع الوصول إليه وكذا اتفاق المبادئ.
وأشارت المصادر إلى أنّ إصرار كل طرف على موقفه يجعل الوصول إلى اتفاق “حقيقي” و”يعالج كل المشاكل” ضرباً من المستحيل. وفي الوقت نفسه، فإنّ المهلة الضئيلة التي تفصل عن موعد بدء إثيوبيا في ملء السد، وفي ظلّ تعرض أديس أبابا لضغوط دبلوماسية كبيرة انعكست في توتر خطابها أمام مجلس الأمن وتطرقه لأقاويل غير صحيحة فنياً وتاريخياً، وفي المقابل انكشاف أوراق مصر بالكامل منذ لجوئها لمجلس الأمن، والتزامها أمام العالم باتباع الطرق الودية والسلمية لحلّ النزاع، كلها تبدو مقدمات لحالة يكون فيها الجميع مضطرين لإبرام اتفاق لمجرد إعلان التوصل لاتفاق، بغض النظر عن محتواه. وهو ما يصب بالتأكيد في مصلحة إثيوبيا حال حدوثه، باعتبارها الدولة المالكة والمديرة سيادياً لعملية ملء وتشغيل السدّ.
وكان لافتاً أنّ إثيوبيا حاولت في خطابها استغلال بعض المواقف والعبارات التي سبق لمصر استخدامها، لمصلحتها، فأشار ممثلها تايي أثقلاسيلاسي، والذي كان سفيراً في مصر منذ عامين، إلى أنّ الأخيرة لديها إمكانية تحلية مياه البحر كبديل لتقليل حصتها من النيل، علماً بأنّ من أشار لهذه الإمكانية سلفاً ولكن في إطار الحديث عن شحّ مصادر المياه في مصر، هو رئيسها عبد الفتاح السيسي، مما يعكس ضرورة الحذر في تناول مثل هذه النقاط التي تستغلها إثيوبيا ليس فقط في الخطابات الرسمية، ولكن، وهو الأهم، في جهودها الترويجية الإعلامية والسياسية في الدوائر الغربية.
يذكر أنّ المفاوضات الفنية انتهت حتى الآن إلى الاتفاق فقط على قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم، وموعد تطبيق تلك القواعد، وهي لا تتعارض مع البنود التي ما زالت في إطار التفاوض، والتي هي بطبيعتها أكثر تفصيلية، وأبرزها منسوب المياه المطلوب ضمان استمراره لبحيرة سد النهضة في حالات الشحّ المائي والجفاف الممتد.
وسبق وقدمت مصر مصفوفة توضح أنّ التدابير التي تضمنتها مسودة اتفاق واشنطن التي وقعت عليها مصر منفردة، تبقي منسوب المياه، إذا توافرت كل حالات الاستثناء من جفاف وتمرير لأعلى نسبة مطلوبة من المياه، عند 605 أمتار تقريباً، علماً بأنّ نقطة الجفاف النظرية هي 603 أمتار. وأوضحت المصفوفة أيضاً أنّ تمرير كمية تتراوح بين 37 و38 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف ستبقي السد ممتلئاً بكمية تصل إلى 23 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي تماماً لتوليد الطاقة المطلوبة، الأمر الذي يتعنت فيه الإثيوبيون.
أمّا الإشكاليات القانونية العالقة، فتتمثل في عدم قبول إثيوبيا بإلزامية كل بند في الاتفاق المزمع توقيعه، متذرعة بأنّ مثل هذا الاتفاق سيكون عرضة في أي وقت للتعديل والتغيير بناء على تنسيق الأطراف الثلاثة، وبالتالي فهي تطالب باللجوء فقط لاتفاق المبادئ الموقع في مارس/آذار 2015. لكن مصر ترغب في تلافي المشاكل العملية التي أظهرها اتفاق المبادئ، وبما يمنع الركون إلى افتراض “حسن النوايا” الذي كان مسيطراً على العلاقات بين الجانبين وقت توقيع الاتفاق، فهم يريدون أن يتم التوافق على طريقة واضحة للتحكيم بناء على طلب أي طرف، واختيار عناصر محددة لهيئة التحكيم أو جهة دولية موثوقة لجميع الأطراف، وإزالة العوائق التي تجعل اللجوء السريع للتحكيم مستحيلاً مثل اتفاق الدول الثلاث.
العربي الجديد