شل إضراب المهن الطبية العمل فى مستشفيات المدينة وتعطلت فيها الخدمات واصابت المرضي نوبات عصبية وامراض متزايدة جراء الاهمال وعدم وجود العناية الطبية ، فمطالب المضربين عن العمل لم تتحقق ، ولم تستجب الحكومة لتنفيذها ..لم يتمكن الاطباء من تسيير العمل.. فجل المهام الطبية يقوم بها الممرضون والمساعدون الطبيون .. تكدست المستشفيات بالمرضي والمصابين ..فتعالت أصواتهم وعلا انينهم .. هناك إمراة تتلوي فالطلق يداهمها والجنين يكاد يؤآزر امه فى العويل والصراخ ، وذاك شيخ يتأوه من آلامه كسكاكين تحش أمعاءه ، واصحاب المقاطف البيضاء يرمقونهم بطرف خفي كأنما الامر لايعنيهم فى شئ ، والخصمان يتحدان بعضهما ، فريقان يختصمان ويتنازعان بلا قضية ، قد تكون فى الظاهر مطالب وحقوق مشروعة ، لكن جوهرها فى الغالب سياسي أو حزبي أو نقابي ، والضحية .. هذا الذي يتلوي وينهش الوجع أحشاءه ، المكلوم ، المزبوح بالم المطالب الزائفة ..الحكومة تتوعد وتهدد .. ونقابة المهن الطبية ترغي وتزبد ، وتوصد آذانها وتهدد بتمديد الاضطراب..ومجابهة مسئولي الصحة مستحيلة ، فهم من وراء جدر عتيقة ، مقيدون بأوامر سلطوية ، يتناولون القضية بإسفاف وعنجهية..ووسط هذه الحرب الباردة .. بادرت الجهات الخيرية واستدعت منسوبيها لملافات هذه المشكلة فاستنفرت قواعدها .. للعمل بالمستشفيات كما استنفر المعلمون قادة الكشافة والعمل التطوعي بالالتحاق بالعمل لمساعدة الاطباء فى عمل الكوادر المساعدة ..
استلم الطاهر الامر للالتحاق بالعمل فى المستشفي المركزي معاونا طارئًا .. جن جنونه وفرح بتباشير مهنته الحلم التي بذل لها الغالي والنفيس ..لكنها تمنعت عليه وتصعبت – إلا أنه لم يركن ولم ييأس فإليها والزمن طويل ..فرح بانه سيدخل الطب من نافذة التطوع ، لكن لابأس فسيبلي فيه بلاءً حسناً، وبإذن من الصحة صاحبت الشأن التي وضعت ثقتها فيه ..فهو يثق فى نفسه وفي قدراته ..وله من الخبرات ماتسمح له الآن بالعمل كمعاون طبي فى اكبر مستشفيات المدينة..
إرتشف الكثير ونهل من المهارات والخبرات التي ساعدته فى القيام بهذا الدور فى المراكز الصحية فى الحارة والقري المجاورة.. فقبع علي مكتبه وهويحلم بنظرات الاهل والاصدقاء يرمقونه بعين الرضاء والاعجاب،دكتور الطاهرجاء ،دكتور الطاهرذهب..أخيراً – يا لحسنات القدر..
هيأ نفسه ولبس البالطو الابيض وحمل ميزان الضغط وقلم البك .. ودفتر الملاحظات (الحكاية مظاهر ياعم) – وذهب الي المستشفي..قابل الطاهر وزميله – الدكتور المناوب فى المستشفي الكبير،كمعاونين طوارئ لهما خبرات جيدة فى العمل الطبي ، فأجري لهما معاينة للاطمئنان ..وعلي الفور قام بتوزيعهما علي مواقعهما فى عنابر المرضي والعيانين..
كان يسود فى المدينة ان الحكومة لم تقم بدورها فى المستشفيات والقطاع الصحي عموما وأنها غير جادة فى ذلك..فكيف لها ان تترك موضوع علاج المرضي وتنساق وراء كبريائها دون النزول من برجها العالي لمناقشة مثل هذه القضايا المهمة ..وانها تسعي لخلق المشاكل لمواطنيها ..وعدم الاهتمام بعلاجهم..وظهر تململ بين المواطنين ، ورغبة فى التظاهروالخروج عن النظام والقانون ..لم يكن المتطوعون إلا أناس لهم الحماس فى العمل والرغبة فى تقديم العون للمواطن ..
فالطاهر يعد نفسه أسعد الناس بهذا التكليف الغالي والمهم فى حياته ، مما يؤكد بأنه شخص مهم فى عالم الطب ، فهذه الفترة التي عمل فيها متطوعا ستمنحه الاعتزاز بالنفس والكبرياء، وستصقل موهبته وتعلي رغبته وتؤجج حبه فى الطب ..كان يهواه منذ الصغر فقد كان يقوم بدور الدكتور والحكيم فى الجمعية الادبية فى المدرسة..ويثبت للكل بانه طبيب..ولطالما أحب هذه المهنة وتحدث وحكي عنها لقب بها قبل أن يدخل الجامعة..
بعدهذا المرسوم الرسمي ، قرر فى نفسه أن يكون طبيبا بحق فصار يختار ملابسه بعناية فائقة وينتقي الاجمل والاغلي منها ويصرف عليها كل ماكان يكسبه من عمله فيها ، حتي تصبح شخصيتة ملائمة للاطباء والاختصاصيين فهم لهم شكلهم وهيبتهم فى المجتمع ، وبرع فى حفظ المصطلحات والمفردات الطبية المتخصصة ، التي كان يتعامل بها فى المستشفي وفى لغته الحوارية أو العلاجية ، لم تخرج من كونه طبيباً ، والاكسسوارات التي كان لا يفرط فيها ..السماعة ، ميزان الضغط ، دفتر الملاحظات ..خطواته – كان يتبختر فى مشيته ،وينظر لنفسه بإعجاب شديد ،وحين تقابله فى الحارة ،يكلمك بفتور وعينين ناعستين دلالة علي ماوجده من إرهاق فى المستشفي فقد عمل طيلة ليلة الامس فيها .. لم يكحل النوم عينيه لسهره المتواصل مع المرضي، وأحياناً قد يفتح لك الموضوع حتي اذا لم تكن المناسبة هي المستشفي..
كان ياتي لعمله الجديد مبكرا نشطاً هاشاً باشاً للمستشفي وينثر حلو كلامه علي الجميع ، الاطباء والمرضي والمرافقين.. حتي أن كثير من المراجعين من المرضي والمرافقين يحسبونه من ملائكة الرحمة لما يبديه لهم من عناية واهتمام فائق..تفوق الطاهر علي نفسه ، فى الملبس والمظهر واللغة والتشخيص وحسن المعشر.. كان يصادق هذا ويمازح ذاك ويبتسم لمن يقابله، ويتناول معهم قضايا اليوم من مستجدات الطب وجديده..بني علاقات خيالية مع الدكاترة الجدد والقدامي.. وأؤلئك الذين يعملون رفقة المنظمات والجمعيات التطوعية الطبية..
إستعان ببعض معارفه القدامي وجولاته فى معسكرات النازحين واللاجئين..واستعراض بطولاته ومغامراته فيها حيث إنه قد عمل يوما فى أحد معسكراتهم ضمن فرق التطوع .. تحدث عن عمله فى عيادات المنظمات الطبية والاغاثية داخل تلك المعسكرات ..قابله أحد الذين كانوا يعملون فى تلك المناطق النائية فاستماله بحلو حديثه وكلام العارفين له في مجال الطب ،فاغراه ذلك بالعمل معهم فى المنظمة الخيرية .. التي تمتلك عددا من العيادات الطبية فى أطراف المدينة الكبيرة وبعض مناطق النزوح واللجوء.. فدار بينهما حوار قصيرعن تلك العيادات ..
د.علي : كيف أخباركم دكتور طاهر.. وكيف يسير العمل لديكم في المستشفي..
د.الطاهر: الحمد لله الاحوال الطبية فى غاية السلاسة ،فالادوية متوفرة والاجهزة تعمل بصورة ممتازة فقط تنقصنا الكوادر الطبية والاختصاصيين..
د.علي: لنا الشرف بالتعرف عليكم، فسيرتكم تسبق جنابكم أخي..
د.الطاهر: الحمدلله كله من فضل الله علينا،ودعاء الوالدين..
د.علي : لدينا اليوم مرور لعيادتنا (البر والاحسان) فى معسكر النازحين ،ممكن تتفضل معنا، حتي تتعرف عليها عن قرب وتسعفنا بما تراه مما يستحق النظر فيه..
( حاول الطاهر أن يعلي من مكانته ويرفع من شانه قليلاً فهو شخص مهم لاوقت لديه لتضييعه هنا أوهناك)
د.الطاهر: والله يادكتور علي ، زمني اليوم ضيق جدا وبرنامجي مزحوم خالص ،خليها وقت آخر..
د.علي : مرورنا سريع دكتور طاهر ولايأخذ من وقتكم كثيرا ..إن شاء الله لا نؤخرك عن عملك..
د.الطاهر: مادام كده ،خلاص ، ممكن سريعا نطوف عليها ، ونكتب أهم الملاحظات لكم..
أصبحت علاقته جيدة جدا مع عدد من متطوعي المنظمات الخيرية من الاطباء ، وقد كان أن إتسعت شهرته الطبية وطيبة تعامله مع متابعيه ومعارفه..وقد كان يغطي معظم الحارات والقري المجاورة ، ساعيا بينهم ، لمراجعة مريض أو متابعة إحدي الحوامل ، يركب درب ، أو يضرب حقنة ،او يوصف بعض الأدوية وكتابة الروشتات لمرضي الباطن أو الصداع ،حتي إصابات الملاعب ،فقد كان يستعان به فى بعض روابط الناشئين والليق في مباريات كرة القدم ،التي عمل فيها وكان موفقاً فى اسعاف المصابين لحين إيصالهم للمشافي.. ومن هنا شاعت واتسعت سمعته كطبيب..
يا لمهنة الطب إنها تجعلك تلبس ملابس راقية ، وتخالط أناس قامات – مسئولين وسفراء.. مستشارين إختصاصيين ، تعيش الحياة كما هي ..
وهويجول بخاطره وأحلامه ..ويتلاعب بخاتم إصبعه..إمعانا فى مداواة همومه القتام ، وبزوغ نجم عالمه الجديد عالم الطب والانسانية والزهو والتبختر.. مازال يخاطب نفسه ويحدثها ،وهو فى غاية الاستمتاع والتمتع بأحلام اليقظة والواقع هذه .
تمكن دكتور الطاهر من العمل فى إحدي عيادات المنظمات الخيرية فى اطراف البلدة صباحا ، ومساءً فى عيادة أخري ..زاع صيته وكان له من المتابعين والمراجعين من المرضي واهاليهم مايعجز عن عدهم وحسبتهم..
تعددت لقاءاته فى المؤتمرات والسمنارات الطبية..وتوسعت علاقاته ، فطلبته الصحة للاشراف علي بعض مؤسساتها العلاجية فى الاطراف ..أصبح دكتور طاهر ملأ السمع والبصر ..وبدلا ان يعمل فى عيادات المنظمات ،أصبحت له عيادة كبيرة فى شارع الدكاترة فى قلب البلد بها اكبر الاختصاصيين..ومستوصف فى أكبر أحياء المدينة ..
تمكن من الاستفادة من الزخم الاعلامي الكبيرالذي يتمتع به وسط الدوائر الطبية والاعلاميه ، وان برنامجه الاذاعي والتلفزيوني قد حجز له مكانة كبيرة في قلوب المستمعين والمشاهدين ..فقرر ان يجرب حظه فى العمل السياسي بعد أن رشح للعمل فى اللجنة الطبية فى البرلمان ..
كان دخوله فى دنيا السياسة المسمار الاول فى نعش مملكته الطبية لما فيها من ملاسنات ومناكفات حزبية وجهوية وقبلية ، فظهر له من نقب فى سيرته وإنتماءاته السياسية ، فانتشرت الاشاعات ولفقت له الاكاذيب وكيد له سياسياً ، حتي جاءت الطامة الكبري.. عندما أخضعت عياداته ومستوصفه
للجنة تفتيش روتينية فى مظهرها .. إجرائية فى مقصدها .. نقبت فى مستنداته واوراقه وتراخيصه..
فتبين لها أن الدكتورالطاهر ابوالحسن ماهو إلا معلماً فى الابتدائي ، يحمل شهادة مزورة في الطب ، وأنه لم يدرسه ولم يأت بجوار كلية الطب من الاصل ، فقد كان مدرساً له العديد من كورسات الاسعافات الاولية ، تقدم للالتحاق بكلية الطب أكثر من مرة ، دون أن يسعفه معدل الدخول لها ، وحينما سنحت له فرصة الاستعانة بالمتطوعين من أمثاله بعد الاضراب الشهير لنقابة المهن الطبية ، دخل المستشفي معاوناً فى الاسعافات الاولية ، واستمر فيها متدكتراً وحكيماً فى زمن الغفلة والضياع.. لم تشفع له علاقاته ولا سمعته الطيبة فى دنيا الطب،ولاحتي خبرته التي تجاوزت الثلاثين عاما عاملا فى حقل الطب والصحة والمؤسسات العلاجية، فانهار كل مابناه في تلك السنوات الطويلة بجرة قلم من لجنة التفتيش ، وتبدد الحلم ..حلم الدكتور طاهر الانيق الطيب..
أنتشر الخبر بين الناس مابين مكذب ومصدق،منهم من حاك له الحكايات والاساطير ، وأنه كان سببا فى وفات فلان وعلان ، ومنهم من أكد بأنه حدد وصفات قتلت فلانة وعلانة ، فانهالت عليه السكاكين ، وانطبق عليه المثل..
(التور كن وقع تكتر سكاكينو) وكثير من الناس بكي دكتور طاهر الانسان ، الذي كان يخصص يوم الجمعة من كل اسبوع للعلاج بالمجان فاكسبته تعاطف سكان المدينة ، حاول بعض زملاؤه وبعض النافزين التدخل لمعالجة الامر إداريا فقط ، لكن القضية أصبحت قضية رأي عام ، فشل أقرب الناس إليه فى معالجتها ، خاصة بعد دخول جهات تعارض واجهاته وإنتماءاته الحزبية ، بكاه المتعاطفون ، وشيعه لقاعات المحاكم من ناصبه العداء السياسي ومن كان يشعر بخطورته علي المهنة وصحة المواطنين..
وفي وسط قاعة المحكمة العليا..
هوي القاضي الصارم بمطرقته الخشبية علي سطح مكتبه ..(محكمة..)
إلتزم الجميع الصمت ..
وارتقب تلاوة الحكم..
الحكم الذي سيقضي علي إنسان طاوعه الطموح والصعود والارتقاء للأعلي بلا عمود..
وفي قفص حديدي علي مقربه من هيئة المحكمة ، وقف الطاهر.. مطأطأ الرأس مكبل اليدين ، يندب حظه ويبكي حلمه الذي تبخر وجهد سنيه الذي ضاع ..ونجمه الذي أفل..
محكمة..نطق القراربالحكم ..
الذي زف الطاهر المعلم .. الذي تدكتر فى غفلة من الزمن علي إنسان البلد المسكين والفقير والجاهل..
فقبر منهم العشرات وأقال قليلهم من العثرات..
.. فضاع الضمير المهني وضعف الوازع الديني واختلط الحابل بالنابل..
وها.. قد أنطوت صفحة من تاريخ الطب الاسود ، في أضابيرالقضاء وقاعات المحاكم..
د. عادل عبدالرحمن عبدالله
الراكوبة