(1) فيما يبدو سباقاً مع الزمن للذهاب إلى مؤتمر الشراكة في برلين في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، أقدمت الحكومة على تنفيذ سلسلة من الإجراءات الملتبسة غير المدروسة في سياق سياسي – اجتماعي شامل، فيما يشبه القفزة في الظلام في محاولة لإقناع “المانحين المفترضين” الذين انتظرت طويلاً هباتهم التي راهنت عليها كرافعة للاقتصاد في غياب برنامج محل اتفاق أو موازنة معلومة، بدت الحكومة في عجلة من أمرها لتقديم تقرير بين يدي المؤتمرين لتؤكد أنها شرعت بالفعل في الاستجابة لتبني برنامج “الإصلاح الهيكلي” كشرط نافذ، فقد تم جرى رفع سعر الوقود، أو ما يُعرف بالسعر التجاري كنوع من الاستجابة لمطلب “رفع الدعم”، كما قررت في خطوة لازمها التعثر من أول الطريق مضاعفة مرتبات القطاع العام بنحو ستة أضعاف، سرعان ما ظهر جليا أثرها التضخمي، ثم أطلقت مشروع “الدخل الأساسي الشامل” بتجربة محدودة للدفع النقدي للأسر في برنامج ليست واضحة تماماً مداه.
(2)
ومع الإقرار بالحاجة الملّحة لإصلاح اقتصادي شامل وعاجل لا يملك أحد ترف تأجيله، إلا أنه مع ذلك لا يمكن تصور أن تفلح حفنة إجراءات منبتة الصلة بخيط ناظم متسقة في إطار حاكم لمعالجة جذور الأزمة الاقتصادية المستفحلة، وليس التعامل المجزأ مع بعض ظواهرها، في غياب رؤية كلية وبرنامج اقتصادي تنموي متكامل متفق على وجهته وتوجهاته ضمن مشروع وطني نهضوي محل توافق سياسي واسع.
تكمن المعضلة في اعتبار الحكومة أنها تملك بالفعل برنامج تصفه بأنه “اقتصادي تنموي ديمقراطي”، بيد أن لا أحد يبدو مقتنعاً بذلك أو بالأحرى حتى سمع به، وهي مسألة لا يمكن إنكارها والمغالطة حولها، فالخلافات المستعرة بين وزارة المالية واللجنة الاقتصادية حول أسس التوجهات الاقتصادية ليست سراً، وهو ما يجعل الحديث عن استناد الحكومة إلى برنامج اقتصادي معلوم أمراً لا يمكن أخذه بجدية في ظل هذا التنازع داخل المكون المدني الرافع الأساسي لإدارة الحكم الانتقالي، فضلاً عن عجز لجنة الطوارئ الاقتصادية التي جيئ بها لتنقذ ما يمكن إنقاذه، فانتهى الأمر بتساؤل محير من أحد أركانها إن كانت “نُحرت أم انتحرت”.
(3)
أعرّج هنا في عجالة لإعلان وزارة المالية شروعها في تنفيذ “المرحلة التجريبية لمشروع الدعم النقدي المباشر للأسر السودانية”، بغرض “قياس ملاءمة آليات وخطط المشروع وتدخلاته ومن ثم إجراء التعديلات اللازمة لها قبل التطبيق الكامل في بقية أنحاء البلاد” كما جاء في بيان الوزارة، ولخصت أهدفه على لسان الوزير بأنه يأتي “في إطار الرؤية التنموية طويلة المدى التي تتبناها الحكومة الانتقالية” التي أشرنا إليها أنفاً، والتي لا نملك إلا أن نتهم أنفسنا بالقصور لعدم معرفتها أو حتى السماع بها، ثم قيل إنها تأتي ضمن سعي الحكومة “لتخفيف آثار المصاعب الاقتصادية الحالية التي تواجه الاسر السودانية”، وأضيف هدف آخر بأن المدفوعات الرقمية الآلية التي سوف تستخدم في توصيل هذا الدعم النقدي “ستسهم في ربط الأسر في المناطق التي عانت من الحروب والفقر الممنهج ليصلها الدعم المباشر، لتكون خطوة مهمة لبناء اقتصاد يشمل ويراعي مصالح جميع السودانيين”.
(4)
من الواضح أن الأهداف المذكو رة أعلاه تعكس حالة عدم وضوح الرؤية الاقتصادية للحكومة، فضلاً عن تناقضها، ذلك أن آلية التحويلات النقدية المباشرة كأداة تطبيق “الدخل الأساسي الشامل” ليست جديدة، وطبقت في السودان في العام 2012 في إطار الاستراتيجية المرحلية لمكافحة الفقر، ولم تثبت فاعليتها سواء لضعف الآليات في الوصول إلى المستحقين، أو بسبب ضعف الموارد في الانفاق عليها، كما أنها طبقت عالمياً في عدة دول، من بينها دول متقدمة، في إطار تجريبي لمعالجة تفشي البطالة بسبب التطور التكنولوجي، وكنظام حماية اجتماعية في الدول النامية، وبالتالي فهي آلية سلبية محدودة الأثر بطبيعتها كمساعدة غير مشروطة لمعالجة وضع طارئ، ولكنها لا يمكن أن تكون ذات قيمة تنموية في حد ذاتها، فطابعها استهلاكي بالضرورة وليس إنتاجي، ولذلك ستخلف أثاراً تضخمية تزيد من معاناة من قصدت مساعدتهم، تماماً كما يحدث مع التوسع في مضاعفة مرتبات القطاع العام بنسية مبالغ فيها، إذ سرعان ما تتلاشى القيمة الشرائية لهذه الزيادة في الصرف الاستهلاكي، وتبدو الجهود الحكومية كمن يطارد خيط دخان، ذلك أنه لن يكون هناك تحسن في مستوى المعيشة بسبب تضخم الأسعار، كما أن برنامجاً بمدفوعات صغيرة لن يحدث فرقًا حقيقياً في حياة الأسر الفقيرة.
(5)
في الواقع تثير برامج “الدخل الأساسي الشامل” جدلا في الأوساط الأكاديمية والاقتصادية حول جدواها، ويتحفظ عليها اثنان من أبرز الحائزين على جائزة نوبل للاقتصاد، إذ يرى بول كروغمان أنه “يمكن إنفاق الأموال بشكل أفضل على البرامج الأكثر استهدافًا” معتبراً “أن الدخل الأساسي الشامل ليس مجديًا سياسيًا لأنه إما سيكلف الكثير أو سيكون برنامجًا اجتماعيًا غير مناسب”، ويذهب جوزيف استقليتز في الاتجاه نفسه، إذ يعتقد أن مهمة الحكومة ومسؤوليتها هي أن تضمن وجود وظيفة لكل قادر وراغب في العمل الذي يره فيه باعثاً على الكرامة.
وفي الحالة السودانية استناداً على هذه الرؤية فإن الحكومة تحتاج لما هو أكثر من إنفاق أموالاً مكلفة للغاية في برامج غير منتجة، أو بالأحرى تقود إلى استدامة الفقر، فهذا البرنامج الذي تتبناه يستهدف الوصول إلى 80% من السكان، وحسب دراسة للبنك الدولي فقد كان التقدير هو دفع ما يعادل خمسة دولارات شهرياً لاثنين وثلاثين مليون وخمسمائة ألف مواطن، وهو ما يكلف نحو بليون وتسعمائة مليون دولار، وحتى بافتراض جدواها، فمن أين ستوفر الحكومة مثل هذا المبلغ سنوياً؟، في الواقع ظهرت عيوب المشروع قبل أن يبدأ فقد كان المقابل المقدر بالسوداني وهو خمسمائة جنيه، أي ما يعادل خمسة دولارات عند إعداد الدراسة، وأصبحت قيمتها الآن لا تتعدى قيمتها ثلاثة دولار مع وصول التضخم إلى ثلاثة أرقام، ومرشحة لفقدان الميد من قيمتها الشرائية.
(6)
إذن ما هو الحل؟ تشير التقديرات الحكومية إلى أن 65% من المواطنين يرزحون تحت خط الفقر، وكما هو معلوم فإن نسبة أعلى من هذه يعتمدون في كسب عيشهم على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وكما أشار كلا من كروغمان واستغليتيز إلى أن الأفضل إنفاق الأموال في برامج تستهدف خلق وظائف، فإن البرامج الأكثر ملاءمة للسودان هي توجيه الإنفاق على قطاع الإنتاج الحقيقي، وليس انفاقها في الاستهلاك، فتحريك الإنتاج في القطاع المطري الذي يعيش عليه معظم السكان وتوفير التمويل المشروط للإنتاج وليس الاستهلاك، من شأنه أن ينهي حالة استدامة الفقر لصالح تحويل الفقراء إلى منتجين في هذا القطاع الضخم، مما سيقود تلقائياً إلى مكافحة الفقر من جهة، بتوفير فرص العمل أعداد كبير، وإلى رفع القدرة الإنتاجية للدولة وتطويرها بقيمة مضافة بالتصنيع الزراعي بما يسهم في تعزيز فرص تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي وتحقيق استقراره بمعالجة الأسباب الحقيقة الي تؤدي إلى تدهور الاقتصاد، وذلك بخفض التضخم، والسيطرة على سعر الصرف، وتحسين ميزان المدفوعات، وخفض عجز الموازنة، وزيادة معدلات النمو. بدلاً من مطاردة أعراض ومظاهر المشكلة الاقتصادية بلا جدوى.
بقلم: خالد التيجاني النور