العنصرية في فتيل

جدتي لابي رحمها الله كانت تحرص على الدعاء للاموات من أقربائها عقب كل صلاة مفروضة ..وكنت معجبة بمثابرتها واجتهادها في التحدث باللغة العربية (او التي كانت تظنها عربية) ..وكانت لها طريقتها في الدعاء ..فهو تدعو بالرحمة اولا لجميع من ستذكرهم ..ومن ثم تبدا في قراءة لستة المختصين بالدعاء ..فتذكر اسم المتوفي ودرجة قرابته ومكان دفنه ….مثال لذلك ان تقول ( محمد اننقا جبانة الفاروق الهرطوم ) وهنا تطلب من الله ان يرحم محمد اخاها المدفون بمقابر فاروق بالخرطوم .. ولا ادري حتى هذه اللحظة الغرض من ذكر (اللوكيشن) في الدعاء؟. المهم انه كانت ضمن هذه الدعوات المدعمة بالموقع على الخريطة .. دعوة لجدها اسمه عبد الله وتحدد موقعه في (جبانة الكوستي) ..وتعني مقابر كوستي .. ..لا يخطر على بالكم اننا لم نناقشها في ذلك .. فالحقيقة اننا اجتهدنا في محاولة اقناعها انها تخاطب رب العالمين فليست هناك حوجة لكل هذه التفاصيل لكن هيهات فهي ترانا اطفال لا نفهم شيئا وكل الذي نناله كان سيلا من اللعنات لأننا قطعنا عليها تسلسل الدعاء.
الذي لفت نظري في دعوات (حبوبة) ..هو تعدد المناطق شرقا وغربا ..سافر اجدادها في كل الاتجاهات وخلفوا صبيان وبنات ..ولم تقف اي حواجز تعيق هذه الرحلات والزيجات ..رغم اختلاف اللغات والسحنات ..حدث هذا في غابر الأزمان ..ترى ما الذي حدث مؤخرا ؟ فقد تابعت بمزيد من الحزن والأسى الحملة الاسفيرية على شاب سوادني لونه اسود كغالب لون اهل البلد ..تزوج بفتاة سوادنية بشرتها فاتحة نوعا ما (عادي يعني ) ..فقامت الدنيا ولم تقعد …وظهرت تعليقات غريبة ومسيئة للشاب واهل بيته ..ومثيرة للضحك في آن واحد ..فالمعلوم بالضرورة ان السودان وبمختلف قبائله نتيجة تزاوج الهجرات المتتابعة من كل الجهات وكل الاجناس ..ولا ادري لماذا يتم الانتساب للعرب وادعاء الصفاء العرقي بالتحديد رغم ان الهجرات العربية كانت مكونة من الذكور الذين تزوجوا بنساء القبائل الزنجية المستوطنة على النيل ..هذا شئ مثبت بالتاريخ ..ففي ذلك الزمن (ما كان في استقدام ولا زيارة )
كنت كثيرا ما امازح استاذي بروفسور عبد الرحيم محمد الحسين (اسم على اسم ..ما تمشوا بعيد ) ..قائلة (والله انتوا ناكرين الاصول النوبية ساي يالشوايقة .. ونص كلامكم نوبي …وكل المصطلحات الزراعية في كلامكم نوبية زي الماروق والقسيب والشادوف والواسوق ..لا كمان واغلب المدن و القرى عندكم لا تزال تحتفظ باسماءها النوبية ..عندكم نسب عربي ..ما قلنا حاجة ..لكن ما تنكرونا حطب ) ..وكان يضحك ويقول لي (انا غايتو ما ناكر ..معترف بدليل القراصة المشتركة بينا )..
كان الخجل يلازمني في كل محفل علمي التقي فيه بالاخوة الأفارقة حين الاحظ انهم يعرفون كل شاردة وواردة عن السودان ويتابعون اخباره عن كثب ..وانا لا اذكر حتى عواصم بلدانهم ..ولا اجد العذر لنفسي الا في انني خضعت لنظام تعليمي يجتهد في اثبات عروبته بكل الطرق ..والعرب في شغل فكهون ..فالعكس تماما عندهم ..فهم لايعلمون عن السودان شيئا غير اننا (طيبين اوي ) ..اذكر اني استجبت لدعوة جارتي السعودية في مدينة الطائف ..دعتني لشرب القهوة مع عدد من نساء الحي ..تجاذبنا اطراف الحديث ..وسألتني احداهن عن زوجي وكيف تزوجنا عندما علمت انه ليس قريبي ..قلت لها تزاملنا في عمل بحثي ..فما كان منها الا ان قالت بدهشة (واو ..انتو في السودان عندكم مدارس وجامعات وتسوون ابحاث وكدا؟ ) ..لم اتردد في الاجابة (قلت لها ..لا ..نحن والحمد لله ..نتولد كدا ..وطوالي نصير اطباء واساتذة ومحاسبين ونجي نشتغل عندكم ..ما ندخل اي مدارس ولا جامعات ولا اي شئ ..هبة من الله كدا ) ..
الشئ المستغرب ان الاستعلاء العرقي والخطاب العنصري والذي كنا نامل في اندثاره خاصة بعد الانتفاضة التي انتظمت العالم كله ..نجد انه في السودان متداول بين شباب وصغار سن ..وذلك لان الانقاذ اجتهدت في غسل ادمغة هذا الجيل ..ونشطت في تغذية العنصرية ونجحت في ذلك الى حد بعيد ..والنتيجة نراها بأعيننا ..شباب يتنمرون على مواقع التواصل الاجتماعي على شخصين كاملي الأهلية اختاروا ان يكملوا حياتهم سويا ..لكن الجماعة ما موافقين لاختلاف اللون والسحنة ..
حرروا ادمغتكم من هذه الأفكار البغيضة يا شباب ..العالم اضحى قرية صغيرة ..والتزاوج صار بين الشعوب والدول وليس فقط بين القبائل ودرجات اللون المختلفة ..و قريبا سنرفع اكفنا بالدعاء جميعا مثل جدتي ..لاقارب هاجروا بعيدا ولم تكن في نيتهم العودة مرة اخرى ..ويا كوستي ..باكر بجيك قاطع مسافات العشم.
الجريدة

ناهد قرناص

Exit mobile version