تأكد أنّ البيت الأبيض كان يخَطِّط لنشرِ نحو 10000 جُنْدياً لقمْعِ الاحْتِجاجات في العاصمة واشنطن وفي أجزاء أخرى من الولايات المتحدة الأمْريكيّة، وقد صرح بذلك مسؤول دفاعي كبير لشبكة (سي بي إس).
غير أنّ وزير الدفاع مارك إسبر ورئيس هيئة الأركان المُشْتركة الجنرال مارك ميلي، اعْترضا على ذلك. وبحسب ما تسرّب، قال ميلي للرئيس ترامب “أنا لا أفْعَل ذلك”، فتراجع الرئيس في النهاية.
وهناك مزاعم بأنّ إسبر أرْسل 1600 جُنْدياً في الخِدْمَة الفِعْلِيّة إلى المنْطقة المُحِيطة بالعاصمة الأمْريكيّة. وحينما لم يطلب الحرس الوطني المُساعدة، وقد كان يتواجد نحو 5000 من عناصره، غادرت القوات العسكريّة الأماكِن التي انْتشروا فيها.
الجدير بالذِكْر أنّ الرئيس دونالد ترامب كان قد أعلن مطلع يونيو الجاري أنّه سيرْسِل “الآلاف والآلاف من الجِنود” لإنهاء “التمرُد والجرائم” التي تحْدُث في البلاد، مُعْتَبِرَاً أنّ العُنْف ناتج عن عناصر تتعلق بـ “الإرهاب الداخلي”، وقد فتح الحديث حول كيفِيّة الرَدّ على الاحْتِجاجات فَجْوة بين البنتاغون والبيت الأبيض.
# كرة الثلج تتدحرج وتَكْبر.. من أمريكا لكل العالم الحُر:
اسْتمرّ آلاف الأمْريكييون في الاحْتِجاج على عُنْصُرِيّة ووحشيّة الشُرْطة في واشنطن وفيلادلفيا ونيويورك، بيْنما عُقِدت في ولاية كارولينا الشماليّة الصلاة الثانية لإحياء ذكرى المواطن الأمريكي الأسْود جورج فلويد، الذي أثار قَتْله احْتِجاجات في جميع أنحاء العالم.
وفي لندن انْدلعت اشْتِباكات بين المتظاهرين المُناهِضين للعُنْصُرِيّة والشُرْطة، وتَمّ اعْتِقال أكْثر من 14 شخْصاً. وتجمّع الآلاف من المتظاهرين في الساحة أمام البرلمان ورفعوا لافِتات تَحْمِل رسالة “حياة السُود مُهِمَّة” وتجاهلوا نصيحة السُلطات لتجنُب التجمُعات الكبيرة بسبب خطر العدوى بفيروس كورونا المُسْتَجِد.
ونفس السيناريو المُشابه حدث في ألمانيا، حيث تَمّ التخْطِيط لتجمُعات في ميدان “ألكسندر بلاتس” بالعاصِمَةِ برلين وفي 25 مدينة أخرى. وتَمّ الإبْلاغ عن حوادث عُنْف في هامبورغ، وقالت الشُرْطة على تويتر إنّ الهجْمات على تطبيق القانون غير مَقْبولة.
وقبل مباراتهم ضد ليفركوزن، أظْهر لاعبو بايرن ميونيخ بطل الدوري الألماني، تضامنهم من خلال الإحْماء بقميصٍ يحْمِل علامة “بطاقة حمْراء ضد العُنْصُرِيّة ـ Black Lives Matters”.
وفي لييج، شرق بلجيكا، تحدّى 700 شخص الحَظْر وشاركوا في مَسِيرة ضُد العُنْصُرِيّة.
وفي باريس، وبسبب الأزْمة الصِحيّة، تَمّ حَظْر مظاهرتين خُطِّطَ لهما ضُد عُنْف الشُرْطة و”لتعْظِيم حركة التضامن الدوليّة ضد إفْلات المسْؤولين عن إنْفاذ القانون من العِقابِ”. ومع ذلك، تجمّع مئات من الأشْخاص أمام السفارة الأمريكيّة. كما تَمّ رفع اللافِتات في سيدني بأستراليا، مع عبارة “لا اسْتطيع التنفُّس”، في إشارةٍ إلى آخِر الكلمات التي نطق بها جورج فلويد.
# أمريكا التقدُّمِيّة: هيْكلة الشُرْطة أمْ….؟
دعونا نعود من أوروبا لأمْريكا، لنرى ما هي الحلول المطروحة، وإلى أين تمْضي ما يُمْكِن أنْ نَطْلِق عليها “الولايات المتحدة التقدُمِيّة” على خَلْفِيّة الاحْتِجاجات الشَعْبِيّة العارِمة التي يقودها ويؤجِجها اليسار، والذي حتّى الآن لَمْ يَقُل العبارة الشهِيرَة حول ضلوعهم فيها بأنّه “شرف لا ندّعِيه وتُهْمَة لا نَنْكُرها”.
ففي مينيابوليس أعلن مجلس المدينة التي قُتل فيها جورج فلويد أنّ إدارة الشُرْطة تنتّظر “التفْكِيك لإعادة هيْكلتها”، وقالت رئيسة مجلس المدينة ليزا بيندر “مُلْتَزِمون بتفْكِيك خِدْمة الشُرْطة كما نعْرفها وإعادة بناء نموذج جديد للسلامة العامة مع مواطنينا لضمان سلامة مُجْتمعنا حقاً”.
الشاهد أنّه من غير الواضح، حالياً، كيف سيعمل “نظام الحماية العامة الجديد”، بيد أنّ مئات المشاركين في الاحْتِجاجات في حديقة باودهورن، جنوب المدينة، استقبلوا الإعلان بحماس. فهل تلك التصْرِيحات مُجَرّد بداية، أم تصُب في حملات عام انْتِخابي، يسْتَجْدى فيه المُتنافِسون أصوات الناخِبين؟ وكيف يصبح ذلك مشْروعاً إصْلاحِيّاً تحتاجه أمريكا الآن أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، ليُعَزِّز احْتِرام وإنْفاذ القانون.
مِن نافِلة القول إنّ العُنْصُرِيّة في المجتمع الأمريكي لها وجود، ولا ينْفي ذلك أنّها أيضاً قد تكون ذريعة لإحْداث تغيير تأخّر أو يجب الإسْراع به، والمُرشّح الديمقراطي جو بايدن يعرف ذلك جيداً، لكنه يريد السُلطة وهو يلْعب دوره في ذات المسرح الذي يشهد عُنْفاً وتخريباً.
ويقول مراقبون، أصواتهم عالية ولكنها قطْعاً غير مسْموعة في ظِل صَخْب وهتافات الشوارع المُحْتجّة، “في الوقت الحالي، ليس لبايدن جو عيونٌ ينْظُر بها للصوص الذين أشْعلوا النار في المحلات التجارية بالمُدِن وقاموا بسَرْقتها”. ويضيف آخرون “يتَّحِد جميع التقدُميين الأمريكيين في العقِيدة ضُدِّ العُنْصُرِيّة والعِرْقِيّة، على الرغم من أنّ رجال الشُرْطة الذين ماتوا في الأسابيع الأخيرة هُم أيضاً أمريكيون”.
هذا وقد ذهب جو بايدن إلى هيوستن لمقابلة عائلة فلويد، لكنه لَمْ يحضر تشييع جنازة جورج لأسبابٍ أمْنِيّةٍ، ويدعمه الآن وزير الخارجية الأمريكي السابق، والذي شغل أيضاً من قبل منصب رئيس الأركان، الجمهوري كولين باول. وفضْلاً عن ذلك، يبدو صحيحاً القول إن بايدن يسْتّفِيد من كل ما جرى ويجري، وصحيح أيضاً، أو على الأقل لا يُسْتَبْعَد، أنّه وحِزْبه الديمقراطي يخطِطان للإمساك بتفاصيل الأحْداث، حَتّى وإنْ لَمْ يظهرا في المَشْهد الساخن. وبالطبع، هذا ليس عملاً جيداً، وإنْ كان مشروعاً، ضِمْن أدوات التأثير في تداول السُلطة الذي يَتِمّ فقط بالانتخاب، فلا ريب أنّ ما يحْدُث حالياً يمْكِن تجييره في انتخابات نوفمبر ومعه عِدّه أصوات إضافية في صناديق الاقْتِراع. ولذلك، فإنّ جو بايدن بنَفْسه يكْتُب مقالاً في (قولف نيوز) يلوم فيه دونالد ترامب على كل شيء، بدءً بفيروس كورونا، وانتهاءً بالقول “إنّ قتل السُود أكْثر من البِيض بنحو 2.5 مَرّة”، وهي إحصائية مُحْزِنَة وحارِقة إذا أخذْنا في الاعْتِبارِ معدَّل التَمْثِيل العِرْقي للسكان، 13% من السُودِ و61% من البِيضِ، ولكن بالمُقابل فإنّ السُود مسؤولون عن أكْثَر من 60% من الجرائم. ويشير بايدن في مَقاله إلى “العُنْصُرِيّة النِظامِيّة”، وإلى “منْسوبي الشُرْطة السيئين”، مُسْتَنْكِراً “عدم تحقُق العدالة”.
من الواضح، أنّ “جو النَعْسان ـ إسْلِيبي جو ـ” كما يطلق دائماً ترامب على منافسه بايدن، قد اسْتَيْقّظ. وتطابقت على ذات الدرجة المزايا الشعبوية لتصريحاته مع أخرى في عام الانتخابات، بل قبل أشْهُر قليلة من موعد التوجُه لصناديق الاقْتِراع الرئاسي والتجْدِيد لبعض حُكّام الولايات وأعْضاء الكونغرس. فقد صرّح مسؤولون في العديدِ من المُدُنِ الأمْريكيّةِ أنّهم سيراجعون إدارات الشُرْطة والسلامة العامة. وتعهدت (جنرال موتورز) بتقديم 10 ملايين دولار لدعم المُنَظَّمات التي تروِّج لتعزيز “القضاء على التعصُب والعُنْصُرِيّة”.
وبينما دعا ناشطون ومتظاهرون بـ “نزع الفتيل”، وتلقوا دعماً من مُشَرِّعين ديمقراطيين، طالبت الإكساندريا أوكاسيو كورتيز، عُضْوَة مجلس النواب الأمْريكي، بتخْفِيض قِسْم شُرْطة نيويورك، وقالت إنّه يصْرف 6 مليارات دولار. وتعهد دي بلاسيو عمدة المدينة بجعْلها “أكْثر عدالة”، واقترح إعادة توزيع جزء من ميزانيّة الشُرْطة على الأعْمال الاجْتِماعِيّة والشباب، ووعد بأنّ القضايا التأدِيبيّة والمُتعلِّقة بالانْضِباطِ لضُباطِ الشُرْطة ستكون أكْثر شفافيّة.
وفي مانهاتن هتف المُحْتجون “خُذوا أمْوالاً من الشُرْطة، ومَوِّلوا المدارس”، وهي خيارات لا يريد دونالد ترامب حَتّى سماعها.
وفي مُقابِل كل ذلك الزخم الديمقراطي الذي يلْقَى انْعِكاساً في استطلاعات الراي، اتَّهم الرئيس ترامب، بعد سحب قوات الحرس الوطني من واشنطن، خَصْمه جو بايدن، والديمقراطيين على وجه العموم، بالرغْبة في “قطع المُخَصَّصات المَرْصودة للشُرْطة”. ودعا إلى “شُرْطة فَعّالة وذات أجور جيّدة”. وأشار ترامب أيضاً إلى مبدأ “المساواة أمام القانون، والذي يعْني أنّ كل أمْريكي يتلقّى نفس المُعاملة في كلِ تعامُلٍ مع الشُرْطة، غَضّ النظر عن العرق واللون والجِنس والإيمان”. فهل يكفي ذلك، أمْ أنّ شَعْبِيّة ترامب آخِذَة في التراجُعِ وستواصل التراجع، فيبْقى خُروجه من البيت الأبيض مسْألة وقت، وما علينا إلّا أنْ نَمْسِك زمناً ونحْسِب. أشْهُر، أسابيع، أيّام، ساعات، فأيّ دقيقة إضافِيّة قبل التصويِت قد يكون لها دورها في حَسْمِ النتيجةِ.
د. عصام محجوب الماحي
عصام محجوب الماحي
الراكوبة