لم يمر عيدٌ من الأعيادِ، فِطراً أم أُضحيةً، فيه كثيرُ موتٍ، مثل عيد فِطر هذا العام، إذ مُنيت كثير بيوتٍ بالمنايا، بسبب جائحة الكورونا، أو بأسبابٍ أُخر. ولم تعد الجنائز تشهد كثير مشيعين، حذر الموت! وانتشرت ظاهرة العزاءات الهاتفية، إذ هرب المعزون من قدر الله إلى قدر الله!
وسط أنباء الموتى التي كانت تترى عليَّ طوال هذه الأيام، أتاني صوت الابن وليد محمود عبد الرحيم، خافتاً حزيناً، لينقل إلىَّ بصوتٍ فيه نبرات حُزنٍ غير خافيةٍ، نبأ وفاة عمه الدكتور يحى عبد الرحيم أحمد، وذلكم يوم الأربعاء 27 مايو (إيار) 2020. ولمَّا كان الدكتور يحى شقيق الأخ الصديق محمود عبد الرحيم، وابن عم الأخ الصديق سراج أبشر استشاري أمراض القلب، كنتُ أتردد عليه مع محمود في بعض الأحايين، في جلسات مؤانساتٍ ممتعاتٍ لبضعِ ساعاتٍ. ومن قبل ذلك، كنتُ ألتقيه دون محمود في لندن، فهكذا توثقت علاقتي به.
فالراحل الدكتور يحى عبد الرحيم – يرحمه الله – قليل الكلام، ولكنه إذا أنس لمؤنسيه قدراً من الاطمئنان والارتياح، تجده متحدثاً طلقاً في الطبابة، وهموم الوطن، ومصاعب المواطن. وأذكر زرته مرة قبل رمضان، في زيارة اجتماعية مع الأخ محمود عبد الرحيم، ووجدنا معه النطاسي البارع الدكتور ميرغني السنهوري، جاره الجُنب وصديقه الحميم، فكانت جلسة مؤانسة لا تُنسى.
تلقى الدكتور يحى عبد الرحيم مراحله التعليمية الأساسية في المدارس المصرية في واد مدني، ولم يكن غريباً أن يتجه صوب مصر للدراسة الجامعية في كلية الطب بجامعة القاهرة الأم (قصر العيني – يُخطئ الكثيرون بما فيهم بعض المصريين في هذه التسمية، فالخطأ الشائع (القصر العيني)! والصواب عندي، قصر العيني، والقصة بالمختصر المفيد، أن قصراً كان يملكه العيني باشا (أحد أعيان مصر آنذاك)، أهداه إلى كلية الطب بجامعة القاهرة، لقيام مستشفى يتدرب طلاب الطب فيه.
وكان الراحل الدكتور يحى عبد الرحيم في العهد الطالبي بجامعة القاهرة، حسبما ذكر ليَّ ابن دفعته الدكتور محمد كشان استشاري العظام، لاعباً كروياً محترفاً، إذ لعب قبل دراسته الجامعية في فريق الاتحاد، أحد عملاقيّ مدني. وأن منتخب كلية الطب بجامعة القاهرة لكرة القدم، كان يحى عبد الرحيم كابتن المنتخب، وأن سبعة من لاعبي المنتخب كانوا من السودانيين!
وتخرج الراحل يحى عبد الرحيم – يرحمه الله – في كلية الطب بجامعة القاهرة في عام 1962. وعمِل طبيباً في مدني، ثم سافر على نفقته للتخصص في جراحة المسالك البولية في المملكة المتحدة، وبعد عودته من التخصص من بريطانيا، واصل العمل في مدني، ولم يأتِ إلى الخرطوم إلا عندما عينته وزارة الصحة كبير استشاري جراحة المسالك البولية، فعمل لفترةٍ زمنيةٍ محددةٍ في مستشفى ابن سينا بالخرطوم رئيساً لقسم المسالك البولية فيها.
وغنيٌ عن القول، أن الراحل يحى عبد الرحيم كان من الرعيل الأول، ضمن أربعة أطباء، في تخصص جراحة المسالك البولية. فالأول الدكتور عثمان عوض الله (شقيق الراحل بابكر عوض الله) والثاني الدكتور عثمان عبد الكريم والثالث البروفسور حسن قريش والرابع الدكتور يحى عبد الرحيم.
عُرف الراحل الدكتور يحى عبد الرحيم بأنه من مؤسسي جامعة الجزيرة، وكان ضمن فريق من أطباء وزارة الصحة المؤسسين لكلية طب الجزيرة الذين قرروا أن تختلف مناهج الكلية عن مناهج كلية الطب بجامعة الخرطوم، بحيث تتجه إلى الطبابة الريفية، وبالفعل نجحت هذه التجربة الجديدة، وأعطت جامعة الجزيرة تفرداً ملحوظاً، وتميزاً مشهوداً.
ومن الضروري الإشارة هنا، إلى أن الدكتور يحى عبد الرحيم كان من مؤسسي مجلس التخصصات الطبية، فكان من أكثر أطباء وزارة الصحة، حماسة لتأسيس ذلكم المجلس، مع نفرٍ ضم البروفسور أبو القاسم الهادي والبروفسور يسن أبو تركي والبروفسور محمد سعيد الريح والبروفسور عاصم زكي والبروفسور ميرغني السنهوري والبروفسور بشير حمد والبروفسور عبدالرحمن محمد موسي والبروفسور محمد كشان والبروفسور عثمان محمود حسنين والبروفسور عثمان محمد احمد طه والبروفسور عبدالرحمن التوم. ومن الملاحظ، أن جُلَّ هؤلاء كانوا من الوزارة، عدا البروفسور عبد الرحمن محمد موسى، الذي كان عميداً لكلية الطب بجامعة الخرطوم، إبان إدارة البروفسور الراحل عمر محمد بليل، ساندوا رئاسة الجمهورية آنذاك في نزاعها مع كلية الطب في جامعة الخرطوم، فتحقق للدولة ما أرادت في تأسيس المجلس على حساب طب جامعة الخرطوم!
وفي رأيي الخاص، أن على جهود هؤلاء تأسس مجلس التخصصات الطبية العليا. وكان يحى عبد الرحيم المؤسس فكرةً وتنفيذاً، لبرنامج الدكتوراه في تخصص جراحة المسالك البولية في المجلس، حيثُ رعاه رعاية أبوية خاصة بحضور اجتماعاته، والمشاركة الفاعلة في لجانه، رغم معارضة كلية الطب بجامعة الخرطوم!
أخلص إلى أن الراحل يحى عبد الرحيم أحمد، كان طبياً إنساناً، فلم يُغالِ في رسوم عيادته الخاصة بالمركز الطبي الحديث، حتى قبيل وفاته، بحُجية أن معظم المرضى غلابة، فعليه من المهم مساعدتهم في كُلفة العلاج المالية، فلذلك يقصد عيادته، المستهدفون بالتيسير. والأغرب من ذلكم، أن بعض المرضى يقصدون عيادته، على الرغم من أن مرضهم خارج تخصصه، فيكتب موصياً بعض أصدقائه وزملائه وتلاميذه من الأطباء، لمراعاة مَن يرسلهم إليهم من المرضى المعوزين!
ومن القصص النوادر التي حدثت له، أنه أجرى عملية جراحية في المسالك البولية، لكارلوس متخفياً بهوية غير هويته، بأحد مستشفيات الخرطوم في تسعينات القرن الماضي. وفي صباح اليوم التالي، جاء إلى مريضه ليتأكد أن كل شئٍ على ما يرام، ففوجئ بمغادرة المريض المستشفى، فاستشاط غضباً، كيف يخرج المريض دون أن يأذن له. ولكن لم يدرِ مَن أخرجه، ولما استفسر من إدارة المستشفى أعلموه أن مجموعة من جهاز الأمن أخذته ليلاً! ونقل صديق للأسرة غضبة يحى المُضرية إلى مدير جهاز الأمن وقتذاك، فما كان من المدير إلا استدعاء يحى إلى مكاتبهم، لتبيان حيثيات فعلهم. وبالفعل أفادوه أن هذا كارلوس الإرهابي، وسألوه هل في الإمكان تسفيره خارج البلاد، فأجابهم بأنه لا يستطيع الرد على هذا السؤال، إلا بعد الكشف عليه، وسمحوا له بالكشف عليه، ثم أخذوا بنصيحته الطبية!
كان جميلٌ، من البروفسور مأمون حُميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم الأسبق، تكريم الرعيل الأول من كبار الأطباء، الذين لم تكرمهم الدولة في مناسباتها المختلفة، عرفاناً وتقديراً، لما بذلوه من جُهدٍ مقدرٍ في تطوير الطب، ونهضة الطبابة في السودان. ومن بين هؤلاء النفر الكريم من جهابذة النطاسيين المُكرمين، كان الدكتور يحى عبد الرحيم أحمد استشاري جراحة المسالك البولية.
ألا رحم الله تعالى أخانا يحى عبد الرحيم أحمد، رحمةً واسعةً، وأنزل عليه شآبيب رحمات الله الواسعات، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وألهم آله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وتلاميذه وعارفي علمه وفضله.
ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى:
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.
إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com