قصة سودانية حقيقية: أخوة امتدت قرابة تسعين عاماً وانتهت بقبرٍ واحدٍ
الشيخ عبدالباسط النبوي وشقيقه علي عبدالباسط النبوي
الأخوة تلك هي الكلمة التي عمّقت معنى الترابط والتلاحم، وهي وإن كانت تعني الانتماء إلى أصل بشري واحد بالأب والأم، أو أحدهما، إلا أنها استعيرت من أصلها ثم وزعت ببذخ على كل معنى جميل يحشد في داخله قوة الانتماء بين شخص أو أشخاص إلى توجهاتٍ أو معانٍ أو قيمٍ سامية، ولذلك كان الإيمان ركيزة ثابتة يربط من انتمى إليه برباط الأُخُوَّة المشتركة، وقد أوضح العزيز العليم في ذكره الحكيم هذا الانتماء بقوله: (إنما المؤمنون إخوة) ولما هاجر المؤمنون من مكة إلى المدينة حصل التآخي الكبير بين المهاجرين والأنصار الذي كان عنوانا بارزًا في السيرة النبوية – على صاحبها أفضل الصلاة والسلام – على عظم الانتماء إلى الأصل المعنوي الأسمى والأعلى الذي آخى بين أقوام لم يجمعهم سوى الإسلام…
لكن إن كان من عجب فهو أن يرتبط شخصان بأخوّة الأصل بالأب والأم، وأخوة الإسلام والالتزام، وأخوة الحياة التي لم تفرقهما في فرح أو كره، ثم أخوة الوفاة، وأخوة القبر.. نعم إخوة بدأت كأي أخوة بين شقيقين لكنها تعالت في معناها وتطاولت في مبناها فأصبحت عجيبة من عجائب الدهر وفريدة من فرائد هذا العصر..
بدأت هذه الأخوة بميلاد / علي عبدالباسط علي النبوي بين عامي 1929 – 1931 و بعده بحوالي عامين كان ميلاد جدنا لوالدتنا #الشيخ_عبدالباسط_النبوي بقرية النبوية بين مدينتيّ عطبرة وبربر بولاية نهر النيل شمالي السودان، عاشا طفولة لصيقة لدرجة لفتت الأنظار، ثم كأن الحياة أرادت أن تختبرهما أيقويان ويصبران على التباعد؟! فسافر علي للعمل بشرق السودان، وسافر الشيخ لحفظ القرآن ودراسة الفقه بخلاوي كدباس، وابتدأ نشاطه التجاري أثناء الدراسة بتجهيز الطعام (قدرة فول) والشاي وبيعهما في المناسبات والأعياد، إلى أن أتم حفظ كتاب الله تعالى و أصبح شيخاً على إسمه الشيخ، ومن هنا بدأ تعلقه بالقرآن وأهله، و اكتسب خبرةً في التجارة ثم انتقل إلى مدينة الأبيض بغرب السودان واستدعى أخاه علياً واجتمعا بها، وعاشا فترةً هنيئة مليئة بالذكريات الطيبة والرحلات الجميلة التي كثُر ذِكرهما لها..
بعدها انتقل الشيخ إلى العاصمة الخرطوم ولم يطب له المقام بها دون شقيقه علي؛ ولم تطب لعليّ المقام دون الشيخ شقيقه، فاجتمعا بالخرطوم واستقرا بها وشيدا بيتين قريبين من بعضهما البعض، فتجاورا في الدار واجتمعا في صلاة الجمعة والجماعة..
وكانا رفيقين في كل سفر خارج السودان حجًا وعمرةً وتجارةً ونزهةً وعلاجًا وحتى في أسفارهما الداخيلة كانا كثيرا ما يترافقان ولا يفترقان..
كانا طيلة حياتهما يتقابلان يوميًّا عدة مرات في المسجد وكانا يتفاكران لأداء الواجبات الاجتماعية معًا فَرَحًا كانت أو كَرَهًا؛ إذ لا يذهب أحدهما دون الآخر ولو تأخر لظرف شقيقه ورفيقه، وكان ذلك مُلفتاً جداً لكل من عرفهما، استمرت هذه الرفقة أكثر من أربعين عاماً، نعم أربعة عقود من الرفقة الدائمة بدون أي اختلافٍ أو تخالف، وكان كُل من عرفهما يشهد على ذلك…
وعندما هلّ هلال رمضان هذا العام، واستبشرا به خيرًا بالعبادة والصيام كعادتهما، وفي ظل هذه الظروف الصحية التي عُطلت فيها الاجتماع في المساجد للتراويح والقيام، كان يؤمُّ الشيخُ أسرتَه لأداء هذه الشعيرة في المنزل، وفي العشر الأواخر بدأت آثار تعبٍ على الشيخ لم تُمكنه من إمامة أسرته فأصبح يصلي مأموماً وزاد التعب عليه فأصبح يصلي جالساً ويدعوا له ولأسرته ( الڤيديو )، وقد شكى الشيخ لشقيقه عليّ ذلك الإعياء، فكان العجيب أن قال له علّيٌ أنه كذلك يشتكي مما تشتكي منه…
زاد التعب على الشيخ وأصبح لا يستطيع النزول لصلاة القيام ولزم الفراش وفقد شهية الأكل، والأعجب أنّ علياً بعده بيوم واحدٍ لزم الفراش وفقد شهية الأكل أيضاً،
كانا لا يشكوان من أي ألم إلا هبوط الجسم عامةً وعدم الشهية و عدم القدرة على الحركة وكل واحدٍ منهم يهاتف الآخر ليطمئن عليه..
يوم أمس الأول ساءت حالة الشيخ الصحية مما اضطرنا للبحث له عن غرفةٍ في مشفى لإجراء الفحوصات والتحاليل وبعد جهدٍ جهيد تيسر المشفى، ومن أعجب الأشياء أنه عند سوء حالته الصحية في هذا اليوم أصبح لا يتوقف عن تلاوة القرآن إلا عند سؤاله عن حاله فقط و يجاوب بأنه في أحسن حال ويحمد الله تعالى،
تحركنا نحو المشفى وهو يتلو القرآن، وصلنا وهو يتلو القرآن، أنزلناه وهو كذلك لا زال يتلوا القرآن، جهزوا له الغرفة والإسعافات الأولية وهو لم ينقطع عن تلاوة القرآن، لم يكن يتوقف عن التلاوة إلا عندما يسأله الطبيب عن شيء فيجاوبه ويواصل تلاوته، طُلبِ منه أن يتلو القرآن في سره لكي لا يتعب فكان منه أن ابتسم ابتسامة جميلة، وواصل تلاوته ولم يوقفها، بعد حوالي أربع ساعات بدأت تلاوته لا تفهم وبدأ صوته ينخفض وضعف النبض عنده جداً إلى أن وقف النبض وفارق الشيخ الحياة..
بدأنا في إجراءات الوفاة الطبيعية في المشفى و انتهينا منها وحملنا الجثمان لتجهيزه في منزل المرحوم،
اتفق جميع الأهل على عدم إخبار علي بوفاة شقيقه الشيخ..
ولكن عجبًا فبعد وفاة الشيخ عبدالباسط بحوالي ساعة واحدة بدأت حالة شقيقه علي عبدالباسط تتأخر.
وبعد حوالي ساعتين من وفاة الشيخ توقف نبض شقيقه علي -أيضًا- وفارق الحياة في منزله وهو لا يعلم أن شقيقه قد سبقه.
وهنا تذّكر الجميع تلك العبارة التي كان يرددها دائماً علي عبدالباسط وهو يضحك حين يقول بلغةٍ بسيطة للملأ ( انا ما بدخل الجنة بي عملي لكن الشيخ أخوي صاحب القرآن أحسب وبإذن الله هو زول صالح وبيدخل الجنة وبيقول لي الله أنا عاوز علي أخوي، وبيسوقني معاه ).
فكان من العجب كل العجب أن تأخر جثمان الشيخ ليغسل جثمان علي و يصلى عليهما سوياً و يحفر لهما قبرٌ واحدٌ فيه لحدين فتنتهي رحلتهما في هذه الحياة الدنيا سويًّا، وينزلان أول منازل الحياة الأخروية سويًّا..
ألا رحمهما الله تعالى وأنزل على قبريهما شآبيب الرحمة وجعلهما على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء.
عبدالرحمن أحمد العبادي
2 – شوال – 1441
25 – مايو – 2020
الخرطوم بحري