غيب الموت، اليوم (الخميس) الذي هو علينا حق، وهو مسطور في لوحٍ محفوظٍ، ومحدد لكل أجلٍ كتابٍ مبينٍ، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”. انسل من دنيانا الفانية، منتقلاً إلى الدار الباقية، الأخ البروفسور الطيب زين العابدين الذي أبلى بلاءً حسناً، في سوح التعليم، العام والعالي، تدريساً وإشرافاً، وبحثاً وتأليفاً، وبذل النصيحة المجردة لإخوانه في الحركة الإسلامية، ابتغاء مرضاة الله، وزاد عن حوض الحرية والديمقراطية بالرأي الحر الشجاع، مدافعاً عن الحق، ومناصراً لقيم العدل، كتابةً وتعليقاً وتحليلاً، في الوسائط الصحافية والإعلامية وواجه في سبيل ذلكم كثير عنتٍ، وعظيم صعابٍ.
عرفتُ البروفسور الراحل الطيب زين العابدين منذ أمدٍ بعيد، وتابعتُ تطويره للمركز الإسلامي، إلى أن صار جامعة أفريقيا، من خلال عملي في صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية، وقبلها صحيفة “الصحافة”، والإذاعة التي كنتُ أُقدم من خلالها برنامجاً يومياً “آفاق”، عن الجامعات، وبتركيزٍ عن جامعة الخرطوم، وشهدتُ رؤيته الثاقبة، وحماسته الدافقة للمركز الإسلامي وجامعة أفريقيا العالمية، توسعاً في الأرض، وتطاولاً في البُنيان، وقبولاً لأبناء القارة السمراء.
وعند تأسيسنا لصحيفة “التغيير” كان كاتبها الراتب، وفارسها المغوار، ومستشارها الأول. لا أنسى أنني عندما فاوضته للانضمام إلى كُتاب صحيفة “التغيير” قبيل انطلاقها، وافق على الفور دون لجاجة أو محاججة. وكان يزورني في الصحيفة بين الحينِ والآخرِ، واغتنم زياراتها في التفاكر والتشاور في أمهات القضايا الوطنية.
كان البروفسور الراحل الطيب زين العابدين يصدع بالحق، قولاً وكتابةً، دون خشيةٍ أو مهابةٍ، وينثر في مقالاته أفكاره، ومرئياته لمستقبل السودان. فالمهمُ، عنده كيف يُحكم السودان؟ وليس مَن يحكم السودان. فالرأي عنده رأيان، رأيٌ عندك، ورأيٌ عند أخيك. أحسبه يُنزل في ذلكم، قول سيدنا علي بن أبي طالب – كرم الله وجه – “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق”. فلذلك لم يتضمن قاموسه السياسي، مفردات العزل أو الإقصاء في السياسة والفكر.
كنا في تشييعه ظهر اليوم الخميس 14 مايو (أيار) 2020 قلة من أهليه، وعارفي علمه وفضلة. وقلتُ لصحبيّ البروفسورين مأمون محمد علي حُميدة ومحمد الأمين أحمد، اللذين كنتُ برفقتهما في التشييع، وأنا يعتصرني حُزن الموت، وألم غياب كثيرين من زملائه وطلابه في جامعة الخرطوم، والصحافيين الذين عمل معهم في العديد من الصُحف السيارة، ولكن قلتُ معزياً نفسي، ومعتذراً عن الغائبين، أنه لولا الكورونة وحبسها لأنفاس الناس في بيوتهم، قهراً وإذعاناً، لتزاحم المشيعون لتشييعه، ولتنزلت عليه مقولة الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل: : “قولوا لأهلِ البدعِ: بيننا وبينكم يومُ الجنائزِ”.
لم يكن البروفسور الطيب زين العابدين فقداً عظيماً، ومصاباً فادحاً، وخطباً جللاً، لأهليه فحسب، بل هو بُنيان قومٍ تهدما، لطلابه في السودان وباكستان والأفركان. كان الراحل البروفسور الطيب زين العابدين، طيب المعشر، جميل الخُلق، رصين العبارة، كثير الملاطفة، عفيف اليد واللسان، لا يخشى في قول الحق لومة لائم. وكان يُجادل بعلم، وينافح بالكلم في سيبل إبلاغ رأيه، لا يعرف المداهنة في الرأي، ولا المساومة في المواقف، ولا يُجامل في المُناصحة، ولا يلين عند الشدائد. وكان يستوقفه في شدائد مواقفه، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبيء:
كُلَّ يَومٍ لَكَ اِحتِمالٌ جَديدُوَمَسيرٌ لِلمَجدِ فيهِ مُقامُوَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراًتَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُألا رحم الله تعالى أخانا البروفسور الطيب زين العابدين رحمةً واسعةً، وأنزل عليه شآبيب رحماته الواسعات، وتقبل الله فقيدنا قبولاً طيباً حسناً، وألهمنا وآله وذويه وأصدقاءه وزملاءه وطلابه، وقراءه وعارفي علمه وحافظي علمه، الصبر الجميل.
وأسأل الله تعالى أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته، ويتقبله “مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.
ولنستذكر جميعاً في هذا الصدد، قول الله تعالى:
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.
إمام محمد إمام
I. Imam@outlook,com