فيروس كورونا: تدوينة عن الوباء تجدد الجدل حول محاكاة النص القرآني

أثارت إحالة الشابة التونسية، آمنة الشرقي للتحقيق لنشرها تدوينة تحاكي نصا قرآنيًا ، الجدل حول الحد الفاصل بين حرية التعبير والمعتقد وازدراء الأديان.

ثمة من رأى في نص التدوينة اقتباسا لغويا مقبولا وثمة من اعتبرها استهانة بعقيدة أغلبية الشعب.

وكانت الشابة قد نقلت منشورا ساخرا عن وباء كورونا في شكل آيات قرآنية مرقمة تحمل عنوان “سورة كورونا”.

وتقول الشابة إن ما نشرته ليس تحريفا للقرآن، مضيفة انها يأتي في إطار حرية التعبير عن الرأي والمعتقد، وفقا لتعبيرها.

كما تحدثت عن تعرضها لتهديدات بالقتل.
وكانت النيابة العمومية قد استمعت لآمنة، وقررت إحالتها على المحكمة الابتدائية 28 مايو/ أيار 2020 لمقاضاتها بتهمة الإساءة للدين الإسلامي، مع إبقائها في حالة سراح.

نماذج لمحاكاة النص القرآني
تشيد الباحثة التونسية، رجاء بن سلامة، بشجاعة آمنة الشرقي وتمسكها برأيها رغم ما تلقته من انتقادات.

وتقول في حديثها لمدونة ترند: “من غير المقبول ملاحقة شخص بسبب نص ساخر تناقله الكثيرون عبر مواقع التواصل، فحرية الضمير لا تتجزأ، والدستور يكفل لنا ذلك الحق، لذا علينا الدفاع عن حقوق الإنسان الأساسية ودعم آمنة”.

وتدرج الباحثة التدوينة المثيرة للجدل ضمن الكتابات المعروفة بـ”الاقتباسات اللغوية”، وهي نصوص ينسجها أصحابها من وحي كتب ذات مرجعية في الموروث العربي الإسلامي.

وتضرب أمثلة على ذلك فتذكر “رسائل الغفران” للشاعر والفيلسوف أبي العلاء المعري التي رد فيها على رسالة أديب وشيخ حلبي يعرف بابن القارح، فوصف حاله بعبارات استقاها من الآيات القرآنيةمن قصة الإسراء والمعراج

ورسالة الغفران عبارة عن رسالة يصف فيها المعري أحوال الناس في الجنة وفي الجحيم.

وينقد المعري في كتابه معتقدات معينة ويسخر من الواقع الاجتماعي والسياسي السائد آنذاك.كما وجه سهام النقد إلى فكرة “صكوك الغفران”، ومن سماهم بشعراء المال الموالين للحكام، فيصور مآلهم في الآخرة وهم مقيدون بالسلاسل.

وفي السياق ذاته،يستدل المدافعون عن الشابة التونسية بفيديو قديم للداعية السعودي محمد العريفي يتلو فيه جملا أطلق عليها فيما بعد “سورة التفاح”.

وقد تعرض العريفي آنذاك لعاصفة من الانتقادات واتهامات بالاستهزاء بالقرآن.

اضطر العريفي حينها إلى الرد على الانتقادات، مبينا أنه ‘كان في محاضرة عن عظمة القرآن حضرها أشخاص من جنسيات غربية غير مسلمة.

وحاول وقتها إيضاح الفرق بين كلام القرآن وكلام البشر، فقرأ لهم جملة من وحي الخيال ورتلها عليهم.

وقد اقتصت المحاضرة ورفعت على موقع يوتيوب مع مؤثرات ضحك الحضور.
وإضافة للمعري، هناك أمثلة عديدة على محاكاة النص القرآني في الأدب العربي.

ويلاحظ الكثير من الاقتباسات القرآنية المباشرة وغير المباشرة في نصوص شعراء وكتاب في القرون الوسطى، على غرار أبي الزمان الهمذاني، الذي نسج على منوال آية من سورة الأحزاب لذم أحد الأعياد الفارسية.

كما يتداول نشطاء من أشعار بيرم التونسي نحا فيها سورتين قرآنيتين (سورة النساء وسورة ياسين).

وقد نشرت تلك الأشعار في مصر في عشرينات القرن الماضي وعنوانهما “سورة الستات” وسورة “أربعين سعد زغلول”.

يدرج فريق من الشعراء والكتاب تلك النصوص ضمن الاستعارات الأدبية التي تهدف لنقد الوضع السياسي والاجتماعي، في حين يتهم آخرون صاحبها بالزندقة.

وفي التسعينات، صدر أمر بسجن الفنان اللبناني مارسيل خليفة سنوات بتهمة تحقير المشاعر الدينية، لغنائه قصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش تتضمن آية قرآنية من سورة يوسف.

يرى كثيرون أن تلك الاقتباسات أو المحاكاة لا تنقص من إيمان الأشخاص بقدر ما تعبر عن فخرهم واحتفائهم بأسلوب النص القرآني وبلاغته و جمال عباراته وسجعها، بينما يرى آخرون فيها تقليدا ساخرا من النص المقدس ويطالبون بمعاقبة أصحابها.

‘نقاش محكوم بخلفية أيديولوجية’
لطالما كان الحديث عن الحد الفاصل بين ازدراء الأديان وحرية التعبير مثار جدل بين علماء الدين والحقوقيين، بدءا من إشكالية تعريف المصطلح وتحديد دلالاته، انتهاء بحيثيات بنود القانون المتعلقة به.

الرافضون لتهم ازدراء الأديان يصفونه بالمصطلح الفضفاض ويخشون من أن تؤدي تلك القوانين إلى الحجر على العقول والنقاش الحر.

في حين يرى آخرون أن الهدف من سن قوانين تجرم ازدراء الأديان هو المحافظة على السلم الاجتماعي وحماية مقدسات الآخر “تحافظ على شعور الأقليات الدينية بالأمان”.

وينطلق الباحث في علم الاجتماع، سامي براهم، من ذلك الطرح، فيقول في حوار معنا: “الدستور يحمل المعنيين، معنى حرية الضمير وحماية المقدسات. هناك من اعتبر ما وقع تنزيله، من نص في إطار بصري يحمل شكل آيات مرقمة، نوعا من الاستفزاز للشعور الديني، خاصة أنه صاحبه تنزيل عدد من نصوص أخرى نسجت على منوال صفحات من المصحف”.

ويكمل: “لا يمكن اعتبار النص الذي نشرته الشابة التونسية محاكاة أدبية قياسا على ما كتبه كتاب أدباء كبار على غرار المعري وطه حسين” مضيفا: “القضية لا تتعلق في النص في حد ذاته فإذا نُشرت التدوينة دون وضعها في شكل صفحة من المصحف لما أثارت هذا الجدل”.

ويرفض براهم حسم الجدل الدائر حول التدوينة بالتجريم القانوني بل يدعو إلى تحييد القضاء وتنظيم نقاش عمومي مفتوح للوصول إلى حد من التعاقد بين ما يعتبر ازدراء للأديان وما يعتبر سخرية نقدية.

ويتابع: “هذا النقاش العمومي غير موجود في تونس اليوم، إذ تغلب عليه التجاذبات السياسية والإيديولوجية أكثر من الأهداف المعرفية”.

وتعد السخرية لدى آمنة أداة مشروعة للنقد، فالأديان بالنسبة لها مثلها مثل جميع الأفكار والأيديولوجيات قابلة للنقاش.

وتقول آمنة في حديث مع مدونة ترند: “نشرت تلك الصورة وعبرت عن أفكاري بشخصية مكشوفة، لأننا نعيش في دولة تضمن حرية التعبير عن الرأي والمعتقد”.

وتستدرك: “لم أتوقع كل هذا الهجوم والتهديد، أغلب معارفي ملحدون، وبعض المتدنيين يقبلوننا بأفكارنا دون إقصاء، ويحاورونا باحترام”.

وتضيف: “تفاجأت باستدعائي للتحقيق وبطريقة اعتبرتها رجعية ولا تستند لروح القانون. فقد تم استجوابي من قبل سبعة ممثلين للنيابة العمومية، حيث وجهوا لي تهم ممارسة العنف والإساءة للدين، وهنا أتساءل كيف يمكن أن تكون تلك التدوينة عنيفة؟”.

وتفضل آمنة إدارة حياتها عبر القوانين الوضعية دون الحاجة إلى تقاليد موحدة تفرض عليها مناهج الحياة، مشيرة إلى أن “الحل يكمن في إرساء دولة علمانية تكفل حقوق المتدين والاديني دون أي تمييز”.

لذا تدعو الشابة إلى ضرورة تعديل بعض القوانين، التي ترى أنها تمس من الحريات الفردية، بأخرى تدعم التجربة الديمقراطية وترسخ ثقافة القبول بالآخر.

“حق مشروع” أم “ازدراء للدين”؟
أعادت القضية النقاش حول الحد الفاصل بين حرية التعبير وازدراء الأديان. كما جددت الخلافات حول تأويل الفصل السادس من الدستور التونسي المتعلق بالأساس بحماية المقدسات وحرية الضمير ومنع دعوات التكفير.

فقد وصف نشطاء ما قامت به الشابة، بـ “العمل المستفز والمشين”.

بينما حذر آخرون من عودة البلاد إلى مربع الاستقطاب الفكري والإيديولوجي واتهموا جهات معينة بافتعال القضية لإلهاء الشعب بمسائل جانبية.

نهاية فيسبوك الرسالة التي بعث بها Issam Chabbi – عصام الشابي
كما انتقد مدونون آخرون ما وصفوه بـ “ازدواجية المتشدقين بحرية التعبير والمدافعين عن منشور سورة كورونا”.

فعلق أحدهم: يعتبرون المس من المقدسات الدينية حرية تعبير بينما ينكرون حق من لا يشبههم في ارتداء وانتقاد ما يريده”.

وطالب البعض بضرورة محاسبة الفتاة واستدلوا بدول لها ثقافة راسخة في الديمقراطية تجرم ازدراء الأديان.

هذا الاستنكار والاتهامات الموجهة للفتاة بتحريف القرآن يتصدى له بعض المدافعين عن السخرية واستعمال النكات، إذ يرون أن حرية التعبير لا يمكن أن تتحقق من دون إعطاء الناس الحق لاستفزاز الأفكار السائدة والمغلوطة، حسب قولهم.

ويرى هؤلاء أن تهمة ازدراء الأديان هي “سلاح موجه ضد العقل وحرية التفكير لصالح سلطة رجال الدين”.

لذا يطالبون بإلغاء التهمة أسوة ببعض الدول الأوروبية ورفع الوصاية عن ضمائر الناس.

كما انبرى العديد من الحقوقيون في الدفاع عن آمنة وعبروا عن استغرابهم من إيلاء كل هذه الأهمية لنص المنشور بدلا من ملاحقة المحرضين على العنف والقتل.

واعتبرت الناطقة الرسمية السابقة في رئاسة الجمهورية أن ما نشرته المدونة هو “أسلوب أدبي يعرف بالمحاكاة الساخرة”.

بينما شبه الصحفي محمد لحبيشة ما حدث للفتاة بمحاكم التفتيش وتساءل:” أين هي هذه المحاكاة للنص المقدس؟ على حسب علمي القرآن منزل ولا يمكن تقليده! ما هذا التناقض؟ أهو الشكل؟”.

بي بي سي

Exit mobile version