خبير التنمية العالمية
هنالك عدة عوامل تسببت في تلكؤ مصر منذُ أمد بعيد، وتقاعُسها عن تطوير استراتيجية – دعْكَ عن قيادة الأمة – تُحدِّدُ مسار تعامُلها مع القرن الإفريقي، ومع إفريقيا قاطبة، ومرد ذلك إلى ثلاثة عوامل رئيسة: أولاً، اعتماد النظم العسكرية على الجهد الاستخباراتي في تجنيد عملاء، من المدنيين والعسكريين، يعينونها على استتباع الدول، عوض عن العمل معها لتطوير استراتيجية تنموية واستشراف رؤية مستقبلية تعود بالنفع على الجميع.
لعل التاريخ الاستعماري قد خلّف عاطفةً سلبيةً وجب تخطيها، كي يتمكن البَلَدَان على التنسيق الذي يؤهلهما للعبور نحو إفريقيا بصورة حداثية. يجب أن يكف المصريون، عوامهم ومثقفوهم عن ترداد مقولة “إنّ مصر والسودان كانتا إقليميْن تحت سيادة التاج المصري”، فهذه مجرد عاطفة تستخدم بوعي ومن دون وعي، لتغطية إرث استعماري يجب العمل قاعدياً على تصحيحه، بزيادة الوعي والتفاعل الحيوي بين الشعبين الشقيقين – لُحمةً وليس شِحْنةً – كما التكافؤ في الفرص، الذي يجب أن تسعي في سبيل تحقيقه الحكومات السودانية، لا سيما وأنَّ الإعلام الحكومي لدولة مصر كان طاغياً، مهيمناً ومؤثراً جداً حتى زمنٍ قريبٍ على وعي الشعب السوداني خاصةً والشعوب العربية كافة. الواقع؛ أنَّ مصر كانت دولة محتلة، أعانت المستَعْمِريْنِ البريطاني والعثماني على حكم السودان ردحاً من الزمن: منذ غزوها للسودان عام 1821 وحتى خروج المستعمر البريطاني عام 1956.
ممّا يُؤسَفُ له حقاً، أنّهُ وعلى مدى فترات متقطعة، بدا أنَّ الأنظمة المتعاقبة على حكم مصر، لم تغير نظرتها الاستعمارية والاستتباعية للسودان، فمصر الخديوية لا تختلف عن مصر الوفدية، ومصر الناصرية لا تختلف بدورها عن الأُخْرَيَيْن إلا من حيثُ الدرجة، حتماً ليس النوع. لأن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يقر بسيادة السودان، إلا بعد ضغط شعبي مرير وتضحيات من الأرواح مهولة. وهذا يشرح حساسية الشعبين، ولا يبرر العداوة بين الأخويْن، لكنها حساسية يمكن تخطيها بالسعي لتحقيق دمقرطة اجتماعية واقتصادية، تنشد التعقل والأريحية في كلا البلدين.
ثانياً، إنشغال الفئة الحاكمة في مصر، سيما العسكرية، على تثبيت أركان حكمها بالداخل مُعتمدةً على البطش وتكميم الأفواه، الأمر الذي أعاق إمكانية تفعيل رؤي علمية تُسَخّر فيها طاقات الأمة وأبنائها النجباء، لصالح المشروع النهضوي. وعندما سنحت فرصة قصيرة للحكم الديمقراطي المدني في مصر، آلت فيه الأمور إلى فئةٍ ذات أحلام طوباوية، تبنّت في سبيل تحقيقها أساليبَ في الحكم، أقل ما توصف به أنها مجرد حيل رجعية، لا تصلح للقرن الواحد والعشرين. يقيني أنّ الديمقراطية، كانت قادرة على تجاوز هذه الفئة، إلا أن تدخل العسكر وأد التجربة برمتها، دون أن يتصور أحدٌ سيما مّمن أيدوهم أنهم سينفردون بالحكم، وقد كان المنوط بهم تكريس جهودهم لتهيئة مناخ معافىً يساعد على استدامة الديمقراطية. ما يهمنا في هذا الأمر أن وجود العسكر في مصر وبهذه العقلية الارتكاسية، يهدد مستقبل السودان الديمقراطي، لأنهم يعتمدون على أقرانهم العسكريين في تحقيق مطامعهم.
لقد عطلت الأنظمة العسكرية تطور الأمة العربية الإسلامية، وحان الوقت لإحداث اختراق من قبل القوة المدنية في هذه الدائرة الفارغة، بالعمل الدؤوب الذي يؤمن بحرية الشعوب، يحافظ على كرامتها، ويومِّنُ لها حقها في الرخاء، مُتّبعاً أسساً علمية ومنهجية، تنأي بأفراد شعبها عن الاَيديولوجيات والأوهام الماثلات غير المجديات في هذه اللحظة الراهنة، كالعلمانية (بمعناها الوجودي)، الخلافة الإسلامية (بمعناها القروسطي)، الهوية (كثابت وليس مرتكز يتبدل بتبدل الحال وتطوره)، الكونفدرالية (في إطارها الفوقي الذي أقرت بفشله كل الأنظمة العربية فلجأت للتقوقع)، إلى اَخره. فمثل هذه الأمور تُرجأ لوقتها، يوم أن يتبدل حالنا من رعايا إلى مواطنين، يكفل الدستور لنا الحقوق ويحدد لنا الواجبات. وقتها فقط يمكن أن تتضح وتتبلور ملامح العقد الاجتماعي، وينسجم الوجدان الإنساني. بغير ذلك؛ تصبح هذه الدعوات مثاراً للجدل ومدعاة للفرقة.
ثالثاً، إنَّ العسكريين في مسعاهم لتحديد حلفائهم في السودان، لا يعتمدون في استمالة الرأي العام لصالح القضية التي تهم البلدين، معتمدين على كوادر ذات نفوذ ثقافي واجتماعي واقتصادي وأدبي وفكري، إنّما يعتمدون على وكلائهم التقليديين، تحديداً القيادات الطائفية التي تجاوزها الزمن، ولم تعُد تحُظى بذات النفوذ الذي كانت تستخدمه من قبل، في تعطيل مصالح السودان، من أجل تحقيق مصلحة “حلفائها” في شمال الوادي.
أرجو أن يَكْذبني حدْسي في هذه اللحظة، لأنني أعتقد أن مصر العسكرية لا تفكر في شيء الآن، قدر تفكيرها في ابتعاث رجال استخبارات، والاستعانة بعملاء محليين يعينون العسكر الحاليين على الانقلاب على الحكم الديمقراطي، أو استخدام نفوذهم على النخب السياسية الحاكمة في السودان، للتخلُص من رئيس الوزراء الحالي، الدكتور عبدالله حمدوك، متهمة إياه بالتؤاطو مع الإثيوبيين. كلا الخيارين قد يتسببا في احتقان سياسي واجتماعي، الأمر الذي قد يؤلب الشعب ضدهم، ويجعل كثيراً من السودانيين يصطفون مع الجانب الخطأ – في هذه الحالة إثيوبيا دون غيرها من الدول، باعتمادها على العاطفة، واستنادها إلى حقائق تاريخية وجغرافية – تُعزز فكرة وحقيقة المصير المشترك لدول المصب: (مصر والسودان).
إنني أؤمنُ بوحدة المصير لدول المصب، من منطلقات استراتيجية تنموية بحتة، بعيداً عن أي عاطفة مائلة إلى الانهزام، الذي يجعل السودان حديقة خلفية لمصر كما يتصوره العالم، وكما قننّته تصرفات النخب السودانية الحاكمة منذ الاستقلال، أو اتباعاً لعاطفة ماهلة كالكراهية التي تتوارى – أحياناً – خلف الأنفة والاعتداد بالنفس! فالسياسة تُبنى على المصالح وليس على الاستلطاف: و المهم أن يحافظ الجيل على حقه وحق الأجيال القادمة. إن العاطفة المعتدلة هي التي تجعل الشخص أو الدولة تفكر في تحقيق المصالح بناءً على أسس منطقية، غير خاضعة لحيل الاستغفال/الإستهبال، أو مُستدْفَعةٍ بأمواج الانفعال. كما يجب أن لا تترك الأمور لحسن النوايا، فيصبح حالنا كالأيتام الذين تكفل بهم مضيع للذمة غير حافظٍ للعهود. وما أكثرهم هذه الأيام، التي كثر فيها اللئام. إنني أدعو الكل من هذه الخانة لتجاوز الخساسة، وتقديم السياسات على السياسة!.
يخطئ السودانيون إذ يظنون أنهم يقفون مع مصر، إنهم يقفون مع أنفسهم لأن هذا السد يهدد حاضرهم ومستقبلهم. ألم نتعلم أي درس من السد العالي الذي دفعتنا العاطفة أو السذاجة للقبول به رغم الأضرار الأيكولوجية، الجيولوجية، البيئية والاجتماعية التي بينّها حينها العلماء والخبراء؟ إنَّ من يقفون مع مصالحهم الخاصة أو تستدفع بعضهم ذات العواطف الساذجة. كل ذلك بسبب غياب استراتيجية تنمية وطنية وتضعضُع المؤسسة العسكرية. فلو أن الحكم يوم غدٍ آل لوطني غيور، فإنه لن يستطيع المدافعة لما عليه المؤسسة العسكرية من ضعف وتهلهل. وقد يضطر إلى الحشد الجماهيري والحمية الوطنية كخطوةٍ أوّلية.
إنَّ مصر، رغم حرصها على وضع حد لتجاوزات الإثيوبيين قد اتخذت التدابير اللازمة لتفادي أي مخاطر قد تنجم من بناء السد في الأمد البعيد والقريب. أمّا السودان كعادته وغياب دولته، فما زال عالقاً في عشوائيته التي تتمثل في عدم اتخاذ التدابير المؤسسية اللازمة، يشمل ذلك الدبلوماسية الحاذقة، لتدارك الأمر. يحتاج السودان التنسيق مع مصر بطريقة متسقة لا تدع مجالاً للمياعة السياسية، التي قد تصل أحياناً إلي درجة التواطؤ الإثيوبي، الذي يتطلب تغيير اللجنة الفنية عاجلاً؛ فجلُّ أعضائها هواة غير متخصصين ومؤدلجين عُينوا في العهد البائد، تبصير الراي العام بخطورة التهاون في هذا الأمر، والشروع في بناء جيش وطني يتوجه عاجلاً إلي حدود ديار بني شنقول، تحسباً لأي فوضى قد تسببها ضربة استبقائية ربما يعد لتوجيهها الطيران العسكري المصري، فاستهداف السد بعد بنائه، يعتبر ضرباً من التهور.
هذه الخطوة خطوة حازمة وجارفة قد تجد دول المصب نفسها مضطرة لاتخاذها، إذا ما استنفدت كافة السبل في إقناع إثيوبيا العدول عن موقفها المتعنّت والمستخف بمصائر شعوب دول المصب، التي استمرأت سياسة الأمر الواقع، مستندةً على اختراقٍ استخباراتي علها، أحدثته نتيجة وصول بعض منسوبيها إلي دفة الحكم، أو ربما مستفيدة من هالة كاذبة نالتها من جراء التوسط في اتفاقية مهلهلة، سرعان ما استحالت إلي وثيقة فارغة من أي مضمون. بيْدَ أنَّ موقفها ذلك لا يقارن بموقف الجارةِ مصر، التي أخطأت، إذْ أمدّت العسكريين بخُطةِ فض الاعتصام الخاسرة، فجعلتْها في مواجهةِ شعبٍ قد عشق الحرية وروّاها بدمه، دون أي مبرر، غير أنها عجزت عبر تاريخها في تعديل مسارها الذاهب في الوجهة المعاكسة للتاريخ والمناهضة لمنطق الأشياء.
لقد اعتمدت ” الجارة العزيزة” إثيوبيا حيل المماطلة والمرواغة والتسويف في محاولة لشراء الوقت؛ لعل هذا هو سبب تغيبها عن اجتماع نيويورك الأخير، علماً بأنها قد حضرت الأول. وما ذلك إلا لأنها أحست بأن المنصات الإقليمية والدولية ستضعها في موقف تفاوضي بئيس، سيما أنَّها ترفض إثيوبيا الاعتراف بمعاهدة 1902م، والتي خولتها الاستفادة من ديار بني شنقول، وحرمت عليها بناء سدودٍ تهدد أمن السودان. وهي إذ تنفرد بهذه القرارت الخطيرة فإن إثيوبيا لا تكاد تهمش دول المصب فقط، إنما هي أيضاً تستخف بحق دول حوض النيل كافة، 11 دولة معنية بالتخطيط الجمعي والشامل لكل ما من شأنه أن يتعلق بالسلامة والصحة البيئية لمواطنيها؛ لا سيما وأنَّ النيل قد أصبح مكباً للنفايات الصناعية والسكنية لبعض الدول التي تفتقر إلي المقدرة المؤسسية لضبط المعايير وإلزام الهيئات والمؤسسات بها.
دكتور الوليد آدم مادبو
الراكوبة