في سبتمبر 1998م التحقتُ بالعمل، محاسباً، بمجموعة السويدان التجارية بالدمام التي وصلتها قبل ثلاثة أشهرٍ شاهراً عصا الترحال التي لم ألقِها حتى يوم الليلة. جئتُ وقد خلَّفتُ ورائي حوارات الأصدقاء ونداءات الأنحاء وهسهسة الشجر ودفق النيل الأزرق والتُرع؛ جئتُ ..وتلك قصة أخرى(علي قول د. عبد الله الطيب)
كانت المجموعة تقوم بتشغيل عدد أربعة عشر بصاً تعمل جميعها في حملات الحج والعمرة. أبانت الدفاتر المحاسبية أنَّ البصات مشتراة، شراكةً، بعقد إيجار شهري ينتهي بالتمليك، بين السويدان وصديقه الذي عرفتُ لاحقاً أنَّ اسمه جمعة بن فهد بن مبارك الجمعة الذي لم يكن قد دفع قسطاً واحداً من أقساط تلك البصات، وذلك بسبب أنه قد اعتقل في الشهر الأول الذي تم فيه إبرام عقد الإجارة، ولذلك فقد آلت تلك البصات للسويدان وصار يدفع أقساطها الشهرية كاملة.
أعتقِل جمعة ، وحُكم عليه بالسجن ، في بلاغ كان الشاكي فيه هو المكتب الخاص للأمير مشعل بن عبد العزيز، وذلك لمطالبة الأخير- الأمير- للأول- جمعة- بدفع مبلغ سبعة مليون ريال سعودي متهمٌ باختلاسها حينما كان يعمل- جمعة – وكيلاً للأمير في مشتريات مخلَّفات الجيش الأمريكي في حرب الخليج الأولى 1991م.
تمت تسوية في نهاية العام(1998م) خرج بموجبها جمعة من الحبس، وظلَّ يتردَّدُ علينا مطالباً بأيلولة نصف البصات له؛ وهو الذي لم يكن قد دفع قسطاً واحداً! كان يأتيني يومياً بهيئةٍ مزريةٍ وثوبٍ بالٍ؛ مما يضعه في مفارقةٍ بيَّنة بين ما هو عليه في الواقع – حتى ذلك الوقت – وبين ما هو عليه في زعمه؛ فقد تميَّز المواطن السعودي العادي، دع عنك رجال الأعمال ، بأناقة الملبس والمركَب: فهم لا يلبسون إلا أثواب الحرير والقطن المخلوط وارد اليابان وسويسرا يتفاخرون بشرائه بالثمن الغالي من الجديعي أو الحريبي، وأشمغة دانهل السويسرية، فضلاً عن عطور إيف سان لوران وعبد الصمد القرشي وكريستيان ديور، ولا يركبون السيارات اليابانية أو الكورية ؛ فهي سيارات العامة ، بل يركبون الأمريكية والألمانية. كان جمعة – وقتها – يأتيني بعربة شفرلية قديمة يملكها ابن عمه الذي يعمل بالهيئة(وهي اختصار لـ : هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
الوقت كان بداية العام 1999م ، وقبل عامين تقريباً ، من غزوتي نيويورك ومانهاتن ، في الحادي عشر من سبتمر2001؛ ذلك التاريخ الذي ما عادت بعده السعودية- ولا الدنيا كلها – كما كانت قبله. كان تيَّار الصحوة السروري الناشئ عن تحالف الإسلام الحركي الذي تمثِّله حركة الأخوان المسلمين ، والسلفية الجهادية التي تمثلها الوهابية في أوجِّ نشاطه رغم اعتقال بعض رموزه أمثال سلمان العودة وسفر الحوالي، مثلاً، وذلك لموقفهم المعارض لتحالف الدول العربية- ومنها السعودية- مع أمريكا لإخراج القوات العراقية من الكويت ، في ما عُرف بحرب الخليج الأولى.
عمل جمعة ، رغم أنه ينتمي لتيار الصحوة السرورية ، كوكيل للأمير مشعل بن عبد العزيز، في شراء مخلفات الجيش الأمريكي ، من خيام وهناقر وأجهزة ومعدات، وقد كان ذلك يتناقضُ بشكلٍ واضح مع معتقدات وآراء أتباع الصحوة السرورية، لكن ، وكما رأينا لاحقاً عند المتأسلمين في السودان ؛ فإنَّ الإسلامي الحركي ما عنده قشَّة مُرَّة في سبيل المال.
سألني جمعة ، في تلك النهارات المتطاولة باللجاج وهو يحاول ليْ عنق الأرقام كي تؤول إليه نصف البصات التي لم يدفع لأجلها قسطاً واحداً ، بل ويذهب أبعد؛ بأنْ تخصم الأقساط من الأرباح التشغيلية وتحويل الباقي لحسابه – الذي سيقوم بإعادة فتحه – مع الأصول. سألني في عِز اللجاج:
– من وين يا شيخ يا محمد ؟
ابتسمتُ، متعجِّباً ، وقلتُ ببداهةٍ بدت لي ضرورية :
– من السودان!
ضحك وقال لي بسخريةٍ :
– أدري يا شيخ إنك من السودان. يعني من الفلبين!؟ من وين في السودان؟
قلتُ في نفسي: أغلب العرب لا يعرفون من السودان سوى الخرطوم وأمِّي درمان ( هكذا ينطقونها) ولا يعرف أوسعهم اضطلاعاً حتى مدينة ود مدني؛ قلتُ: لأخيَّبنَّ معارفه فقلت له : من سنار. ردَّ علي ببساطة : سنار! إي أدلَّها(يعني أعرفها بلسان المنطقة الشرقية) قلتُ أتحداه: ماذا تعرف عنها ؟ قال لي:أعرف كتير يا شيخ! أعرف خزان سنار ومشروع الجزيرة وامتداد المناقل. فبُهِتُّ. سكتُّ. بعد فترة قلتُ له : أنا في الحقيقة من السوكي .. قلتُ أختبرك؛ فإن عرفتَ سنار .. عرفتَ السوكي. وكانت دهشتي كبيرة حين قال لي : السوكي أدلِّها وكذلك الدندر وحظيرتها.
ثمَّ حكى لي حكايته مع السودان التي ابتدأت منذ أوأئل التسعينات؛ وتحديداً منذ بداية عهد الإنقاذ. ابتدأ بأن ذكر لي – بفخر- أصدقائه في السودان: لفيف من السياسيين والعسكريين ورجال الأعمال. وظلَّ يسردُ عليَّ الأسماءَ تلو الأسماء، وأنا، بين مصدِّقٍ ومكذِّب، أتنقَّل – مدهوشاً – بين صورته الرثَّة التي أمامي ، وبين صورته الزاهية التي يصرُّ على ترسيخها في ذهني؛ وكيف أنه حين يذهب إلى السودان يتم استقباله، في المطار، من قِبل إدارة مراسيم القصر الجمهوري وأنَّ إقامته لا تكون إلا في الهيلتون أو قصر الصداقة، على أقل تقدير. فيما بعد عرفتُ أنه كان صادقاً فيما قاله لي؛ من أنَّ عقوبة السجن التي قضاها كانت بسبب حبه للسودان ( يقصد، بالطبع ، النظام الإسلامي الحاكم في السودان) وكيف أنَّ كل الفروقات المالية، فيما كان بحوزته من أموال الأمير، كانت تذهب للسودان، إضافةً لما قدمه من مساعدات عينيه : خيام وهناقر ومعدات، في وقتٍ كان العالم كله يقاطع الحكومة” الإسلامية ” في السودان لمواقفها المتطابقة مع موقف تيار الصحوة السروري؛ بل كان، موقف الحكومة السودانية، أكثر تطرفاً؛ فقد كانت المظاهرات تخرج هاتفة: بالكيماوي يا صدام. يهود يهود آل سعود.
كذَّبتُ من روايته ما كذَّبت.
دارت الأيامُ دورتها، وتقلَّبت بنا الأحوال، نقلنا نشاطنا كله، في مجموعة السويدان التجارية، من المنطقة الشرقية إلى المنطقة الغربية. اختفى جمعة تماماً ولم نسمع به إلا بعد ثلاثة أعوام من معركة اقتسام البصات تلك، وقد أصبح، الآن، حديث الناس . بعد أن اقتحم سوق الأعمال بقوة مذهلة . وقد سنحتْ له فرصةٌ استثمارية ، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حين تمَّ التضييق علي حركة الأموال بين السعودية والغرب، فقام بتأسيس شركة لتوظيف الأموال على غرار شركات السعد والريَّان في مصر.
في تلك الأثناء كنَّا ، في مجموعة السويدان ، نمرُّ بصعوباتٍ مالية ، وكنتُ وقتها مديراً مالياً للمجموعة. قال لي المدير العام ، والذي هو كفيلي وصديقي في ذات الآن، قال لي : ما عندنا حل إلا جمعة الجمعة، قدمنا له السبت؛ يعطينا الأحد. قلتُ بتحفُّظ : لعلهُ ! وذهبنا إليه في الدمام . وجدتُ أمامي، ذلك الرَّث المهلهل وقد أصبح إمبراطوراً على عرش إمبراطورية مالية ضخمة . كانت مكاتب مجموعته التجارية تحتل ما يزيد عن الثلاثة طوابق في عمارات التأمينات التي بشارع الظهران بالدمام، كانت إدارة المجموعة تحتلُّ طابقاً كاملاً. في نهاية ذلك الطابق توجد ردهة فسيحة مفروشة بالموكيت وعلى أطرافها ستائر من المخمل والدانتيلا، وفي الأركان تتوزَّع أصص ومزهريات ولوحات. تنتهي تلك الردهة بمكتب فخمٍ هو مكتب سكرتير المدير العام، وعلى يساره بوابة تفضي إلى مكتب المدير العام : جمعة الجمعة. رحَّب بنا وقال، حين رآني ، مداعباً صديقه السويدان: السوادنة ورانا ورانا يا أبو عبد العزيز؟ ثمَّ حدثنا عن اتساع أعماله وأنشطته ، حدثنا عن شرائه طائرةً خاصةً من شركة أرامكو السعودية ، بل وأرانا الخبر منشوراً بالإقتصادية التابعة لصحيفة الشرق الأوسط، حدَّثنا – بغرور-عن خططه المستقبلية ثمَّ أخذنا لغرفةٍ تفتح في مكتبه يتوسَّطها مجسَّم كبير مؤطَّر بالزجاج عليه لوحةً ذهبية كُتب عليها باللغتين العربية والإنجليزية : قرية الصداقة السياحية – الخرطوم . خفق قلبي حين رايتها . رأيتُ النيل الأزرق . رأيتُ النيل الأبيض . رايتُ النيل . رأيتُ توتي والوابورات وحلَّة حمد . كان قلبي يخفق ، بينما هو منخرطٌ ، في زهوٍ ، يشرح للضيوف خططه في ضمَّ توتي ، ومقرن النيلين، كورنيش بورتسودان..ألخ . كان قلبي يخفق ، وكنتُ كمن تُغتصَب أمه أو حبيبته أمامه. حدَّثنا عن إمبراطوريته في السودان ، التي يتأسس عليها كل هذا المجد من امتلاكه للأراضي في الخرطوم والشمالية والنيل الأبيض والنيل الأزرق والبنوك والشركات. دولة كاملة استطاع أن يؤسسها في غضون أعوامٍ ثلاثة. كيف تمَّ ذلك؟ كم دفع فيها ؟ ومن أين؟
في غمرة زهوه بأملاكه في السودان قال، موجهاً حديثه لي، أنَّ عمر البشير قال له:
– إيش باقيلك يا أبو عبد الرحمن في السودان؟
قلت: باقيلي مكان واحد!
قال: إيش هو؟
قلت: القصرالجمهوري اللي إنتَ قاعِد عليه!
طالع البشير فيَّ باندهاش؛ فضحكتُ وضحِك.
وضحِك الجميعُ لتلك الحكايةِ إلاي؛ كانت في حلقي غصة وكان قلبي يخفق.كان قلبي يخفق.
____________________________
أدناه بعض ما ذكر لي جمعة من أملاكه بالسودان:
1- بنك التنمية التعاوني الإسلامي
2- البنك العقاري السوداني وجميع الأصول التابعة له ( أكثر من ستين عقاراً بشارع البلدية وحده)
3- فندق قصر الصداقة ( اشتراه بمبلغ 17 مليون دولار وباعه- لاحقاً – لشركة الزوايا بمبلغ 45 مليون دولار) 4- الشركة السودانية للمناطق والأسواق الحُرَّة- منطقة قرِّي الحُرَّة، ومعرض الخرطوم الدولي
5- مساحة 265000 متر مربع بقرية الجنينة بسنار لعمل منتجع سياحي – وهذه ملكية حِكر 6- ستمائة ألف متر مربع بامتداد البحر الأحمر لعمل كورنيش.
6- نسبة %50 من أسهم شركة دانفوديو، استبدلت بشركة العمران للبني التحتية التي تعمل في التعدين والتنقيب
7- أراضٍ زراعية في مشروع سندس الزراعي ومشروع ماريا بمساحة ثلاثة ملايين متر مربع
8- شهادات بحث بملكية أراضٍ ( ملاحظة: ملكية مطلقة وليس استثمار!) بعدد 16 ألف قطعة أرض بالمنطقة الصناعية الخرطوم وتوتي وجبرة قال إنه يخطط للإستفادة منها في عمل ورش للبصات التي ينوي استيرادها للعمل في المواصلات الداخلية وبين المدن.
9- شركة المنصور للأوراق المالية ( مضاربة في الأوراق المالية)
10- شركة ليموزين والنقل البري
11- شهادة بحث بملكية أراضٍ (ملكية مطلقة وليس استثمار) عدد عشرين مربوعاً بجبل أولياء بمساحة تقارب الخمسمائة ألف فدان( باعها له الصافي جعفر حين كان مديراً لشركة تنمية شرق جبل أولياء- سندس).
هذه الأملاك تتبع لشركة الجمعة للتجارة والإستثمار التي يديرها عميد مفرَّغ من الجيش اسمه الفاتح عوض، وعقيد اسمه طه ميرغني أو ميرغني طه( لست أذكر!)
هذا غيض من فيض العطاء الكيزاني لجمعة الجمعة الذي كان مداناً لسعوديين حملة أسهم في شركة الجمعة لتوظيف الأموال بمبلغ مليار ومائة مليون ريال سعودي، وقد أصدرت المحاكم السعودية أحكاماً ببيع ممتلكات الجمعة بالسودان لسداد تلك المديونية .. فماذا حدث؟ هل بيعت أراضينا لسداد ديون الجمعة ؟ ولمن بيعت؛ كيف وبكم؟
محمد عبدالملك
الراكوبة