مساهمتي في انقلاب يونيو 1989

في مثل هذا الوقت من كل عام تفيض صفحات الصحف بحكايات وذكريات عن انقلاب أو ثورة يونيو (بحسب موقفك حتى لا يغضب مني أحد). أكثر ما يحيرني أن الذين صنعوا الانقلاب يتكاثرون، وفي كل عام تظهر وجوه جديدة تدعي أنها اشتركت ونفذت الانقلاب. قلت لنفسي لو أن كل هؤلاء اشتركوا في تنفيذ الانقلاب هل كان ممكناً نجاحه؟. لو أن هؤلاء.. كل هؤلاء.. الدعيين ساهموا في الانقلاب لكان انقلاباً معلناً لكافة جماهير الشعب السوداني. لا أعرف لماذا لا تكف الصحف عن استنطاق هؤلاء الدجالين، وخاصة أن الذي صنع الانقلاب من ألفه إلى يائه توقف تماماً عن الإدلاء بأي إفادات جديدة أو قديمة حول سيناريو الانقلاب.

لماذا أنا وحدي سأتخلف عن الركب، لابد أن أوضح لكم دوري الذي لعبته بمهارة فجر يوم الثلاثين من يونيو ولستُ مدعيّاً!!.

دهمني الانقلاب في طابونة رغيف، إذ كانت صفوف الطابونة أحد الثغور المهمة التي انطلق منها الانقلابيون. حينما سمعت من الجزارين أن الكباري أُغلقت وأن البلد “اتملت عساكر” أيقنت أنه اليوم الموعود الذي حدثني به أستاذنا الانقلابي الكبير أحمد سليمان؛ على قبره شآبيب الرحمة. ألخّص لكم الآن وقائع ما جرى، وجملة الخطوات التي قمت بها منذ الرابعة صباحاً وحتى صدرور البيان الأول.

الخطوة الأولى:

غادرت الطابونة قاذفاً بكيس العيش في الهواء الطلق (بلا عيش بلا لمة)، ذهبت عبر فناء مظلم ومخيف قاصداً منزل دكتور الترابي في المنشية وهو على بعد دقيقتين من حيث كنت أسكن في امتداد ناصر. كان هدفي هو إخطار الدكتور الترابي بأن البلد فيها انقلاب علشان يشوف ليهو طريقة يتخارج بيها (شفتو الغبا). في منتصف الطريق والدنيا ضلمة قابلتني عربة كانت لعصام الترابي الذي أخطرني بأن والده اعتقل قبل دقائق من قبل عساكر مجهولين، والعسكري الذي كان يحرس المنزل أُخذت بندقيته وهو ذاهب إلى نقطة بري للتبليغ عن والده الذي اختطفه الانقلابيون!!.

الخطوة الثانية:

قفلت راجعاً من منتصف الطريق وواصلت طريقي للمنزل للاستعداد لهذا اليوم العصيب. أمام الباب وجدت صديقي محمد سيد أحمد المطيب مدير تحرير صحيفة الوفاق الأسبق الذي أفادني بخبر عجيب, فبحسب معلوماته أن علينا أن نسرع للداخل لمشاهدة الترابي وهو يلقي بيان الانقلاب. رغم أن الفكرة لم ترق لي إلا أنني سارعت بفتح التلفاز ولم يكن هنك ترابي ولا يحزنون. قررنا الذهاب لمنزل صديقنا محمد طه محمد أحمد في بري، في الطريق وجدنا محمد طه منطلقاً كالريح لا يلوى على شيء، ترافقنا ثلاثتنا بحثاً عن الأخبار والحكايات!!.

الخطوة الثالثة:

كنا أول من اكتشف أن هؤلاء الرجال الانقلابيين جبهة!!.. دخلنا منزل صديقنا خالد بكداش (الله يطراهو بالخير) فوجدنا عشرات المواتر في الفناء، والمنزل يغص بعشرات الشباب من منفذي الانقلاب الحقيقيين الذين تجاهلهم التاريخ، وصعد على السطح المُدّعون والدجالون. كنا على علم بموقع بكداش في الأجهزة الأمنية الشعبية، ولذا حينما رأينا المنظر أدركنا تماماً هوية الانقلاب، وتأكدت أن ما كان يقوله لي أحمد سليمان قد تحقق!!.

الخطوة الرابعة:

خرجنا من منزل بكداش بأعجوبة ونجونا من اعتقال مبكر. كان محمد طه في غاية الانفعال وبدا ثائراً في وجه بكداش (أنا عضو المكتب السياسي للجبهة الإسلامية فكيف تعملوا انقلاب في البلد وما تقولوا لينا)، وظل محمد طه ثائراً وغاضباً من الخداع الذي حدث للجبهة الإسلامية بتنفيذ انقلاب من وراء ظهرها!!، كان بكداش صامتاً ولم يرد على محمد طه، واعتقدت في ذلك الوقت أن بكداش لم يرغب في الحديث أمامي باعتباري ليس واحداً من ضمن (الجماعة). انسحبت خارجاً من الغرفة وتركت محمد طه ثائراً دون أن ينطق بكداش بكلمة. فجأة ثار بكداش ودعا محمد للخروج من المنزل بسرعة. أخيراً جرجرنا محمد طه للخارج بعد حديث بين المطيب وبكداش. فهمت بعد زمن أن أمراً قد صدر لبكداش من جهة ما باعتقالنا باعتبارنا أصبحنا خطراً على الثورة وهويتها، وكان وقتها ليس مسموحاً حتى بالهمس في هذا الموضوع. المهم مرقنا وتخارجنا بسلامة.

الخطوة الخامسة:

من هناك ذهبنا (ثلاثتنا) لمنزل الأستاذ إبراهيم السنوسي في امتداد ناصر. وجدنا باب المنزل مفتوحاً، والأحوال كلها رأساً على عقب. بالداخل وجدنا زوجته التي أخطرتنا أن إبراهيم اعتقل، وزادت بقولها: (المحيرني إنو الاعتقلو هو أبو القاسم حسن صديق). أبو القاسم حسن صديق من أشهر الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، وكان أخو أخوان، منزله مفتوح للغاشي والماشي، لا تعرف في منزله أهل البيت من الضيوف. كان يبدو لي أن أبا القاسم لا علاقة له بالسياسة، ولكن طلع في النهاية داهية انقلابي درجة أولى. عرفت بعد ذلك أن لأبي القاسم علاقة بالرئيس البشير.

الخطوة السادسة:

من هناك غادرنا صوب منزل الأصدقاء ماجد يوسف (السفير الحالي)، والعبيد مروح السفير الذي تعين مؤخراً مديراً للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون، والدكتور خالد التجاني الذي كان ثرياً وسط جزيرة من المفلسين، لم يصدق ثلاثتهم أنهم وجدونا في ذلك الصباح الباكر أمامهم مباشرة، وكم كانوا في شوق لمعلومات الأستاذ طه وتحليلاته الشيقة رحمة الله عليه (وا أسفي عليك يا صديقي أبا رماح، سنظل نذكرك كلما جمعنا مجلس وما بقي فينا نفس طالع ونازل). انزوى خالد التجاني في ركن قصي مع الشهيدين موسى علي سليمان وموسى سيد أحمد، في حين بدأنا نحن نروي مشاهداتنا للصديقين ماجد يوسف وعبيد مروح، اللذين كانا من أشهر الصحفيين في جريدة الراية، فكيف ينفذ انقلاب من الطابق الذي فوقهما دون أن يعلما به (كان مكتب الترابي في الطابق الثاني في جريدة الراية. إذا جاء وقت محاكمة سدنة الإنقاذ وانقلابييها ونحن أحياء (وما أظن)، سأشهد أن الصديقين ماجد يوسف وعبيد مروح كانا يستغرقان في نومة عميقة وقت التنفيذ). مؤخراً عرفت أنهما كانا ضالعين في الانقلاب، أي والله، في التخطيط والتنفيذ، وكانا على صلة قوية بأبي القاسم حسن الصديق.. والرئيس البشير!!

الخطوة السابعة:

غادرنا (ثلاثتنا) امتداد ناصر متفرقين كل إلى الجهة التي تروق له. كانت وجهتي منزل الأستاذ أحمد سليمان بالمنشية. ما جرى لي بعد ذلك لا يخطر على بال.

أترككم هنا في هذه الحلقة الأولى لنواصل الحلقة القادمة لأكشف لكم عن دوري بالكامل في انقلاب ثورة يونيو 1989!!.

عادل الباز
الراكوبة

Exit mobile version