لفة خيط

بالأمس خرج وزير الصحة مغاضبا في وسائل الاعلام الرسمية ..وعبر بنبرة حزينة عن تأثره البالغ واسفه الشديد لما تتعرض له الكوادر الصحية من تنمر لفظي وجسدي وصل الى حد الضرب والاهانة لاشخاص خرجوا لتقديم خدمة جليلة للمواطن والوطن ..وتحسر الوزير على ان الاطباء ليس فقط لا يتلقون جزاء ولا شكورا على مجهوداتهم ..وانما في المقابل يكون جزاء سنمار هو نهاية مطافهم.

اذكر انني كتبت قبل فترة في العهد البائد مقالا بعنوان (دا الجنن عبد القادر ) وتحدثت فيه عن استشراء ظاهرة الاعتداء على الاطباء متسائلة عن الأسباب التي ادت الى غضب المواطن السوداني وافراغ ذلك الغضب في (الحيطة القصيرة ) وهم الاطباء الذين نعلم بالضرورة انهم لا دخل لهم بأس البلاء وهو انهيار النظام الصحي وتردي الخدمات التي يتلقاها المواطن في المرافق الصحية حتى تكاد تؤول الى الصفر.

هذا هو اساس المشكلة يا سعادة الوزير ..ببساطة وبلا تزويق للكلام ولا مداراة ..لا توجد خدمات مجانية بالمؤسسات الصحية ..وان وجدت فهي صعبة المنال دونها جبال ومتاريس من البيروقراطية والمعيقات ..ولو حاولنا تفكيك المشكلة الى عناصرها الاولية ..لوجدنا اننا نسحب في (بكرة خيط) كل سبب يأتي بآخر حتى نجد انفسنا في مواجهة الحقيقة المرة ..الا وهي ..انه لا يوجد نظام صحي سلس في السودان ..وهذا ما يلقي بظلاله على الاطباء قبل المواطن ..و(يا اخواني كان روقتوا ..انا بوصف الشفتوا).

لو نظرنا حولنا في كل ارجاء المعمورة ..لن تجد مؤسسة صحية تسمح بتواجد المرافق طوال الوقت الا في السودان ..ليييه ؟ عشان الطبيب يكتب فقط العلاج ..وعلى المرافق (الجكة) ..جيب الدواء الفلاني ..امشي جيب حقنة وشاش وقطن ..جيب درب ملح ..ووو خليني ساكتة احسن .. وقد مررت شخصيا بتجربة مريرة عند مرض امي الذي توفيت فيه ..فقد تعبت الحاجة رحمها الله حوالي الساعة الثانية صباحا ..كانت برفقتها اختى ..اسرعت اختي الى الطبيبة المناوبة والتي اتت مشكورة الى الوالدة ..وكتبت لاختي دواء بصورة عاجلة .هرعت اختى بدورها الى صيدلية المستشفي ..واجتهدت في ايقاظ الصيدلي المناوب ..لتفاجأ بان الدواء غير موجود في صيدلية المستشفى ..عادت الى الطبيبة مرة اخرى لكي تنصحها بدواء بديل ..قالت الطبيبة ان لا بديل ..وكان على اختى ان تلف على صيدليات الخرطوم في نهايات ذلك الليل دون جدوى ..وارتاحت الوالدة راحة ابدية فقد اختارها الله الى جواره في اليوم التالي والحمد لله على قضائه.
كلما تذكرت تلك الحادثة ..لا استطيع القاء اللوم على شخص محدد (منو ولا منو) ..هل الطبيبة التي تكتب علاج غير موجود في الصيدلية في الليل وآخره ؟ ام المستشفي الذي لا يحرص على وجود علاجات يكتبها اطباؤه ؟ ام الصيدلي الذي لا يطالب بوجود الأدوية المنقذة للحياة في مستشفي عمومي ؟..ام المرافق الذي يجب عليه ان يكون سوبر مان في الحركة ويتزود بصبر أيوب لتحمل مآسي النظام الصحي ..؟

ما قلته أعلاه لا يبرر التنمر الذي يحدث لكنه يشرح مقدار الألم والوجع الذي يجده المواطن السوداني عند لجوئه الى المرافق الصحية الحكومية ..اما المستشفيات الخاصة فتلك قصة اخرى .(.فالوجع راقد بي هناك كيمان كيمان) ..لذلك تفاصيل قولي والمجمل يا سعادة الوزير ..ان الاتجاه الى استصدار قانون يحمي الكوادر الصحية شئ جميل ..لكن الاجدى هو الضغط على وزارة المالية لزيادة مخصصات وزارة الصحة ورفع النسبة التي تتلقاها من الناتج القومي ( الصحة والتعليم نصيبهما (1% ) ) ..تخيلوا؟ (تلك قصة اخرى ايضا) ..والاجدى ايضا اعادة نظام العلاج المجاني وتوفير معيناته الاساسية والاهتمام بتدريب وتأهيل الاطباء والكوادر المساعدة واعادة الألق لمهنة التمريض ..فلا اعتقد ان مواطنا يتصل بالاسعاف فيأتيه في لمح البصر مجهزا وبرفقة طبيب وينقل صاحب الحالة الحرجة الى طوارئ مهيئة بكل الاجهزة والمعينات ..ويجد متابعة وعلاجا وطبيبا مؤهلا و ممرضا مدربا ..لا اعتقد انه ان توفرت هذه الأشياء سيحدث تنمر او اعتداء من اية شاكلة ..بل ستجد ايات الشكر والعرفان في كل منعطف وشارع ..والحال أعلاه سينعكس ايجابا على اداء الأطباء ايضا ..فالشئ المؤكد انهم يعانون اكثر منا من تردي الخدمات ..لكنهم يحاولون اشعال شمعة في الظلام الدامس .

اتمنى ان تكون هذه اول ما يتم مناقشته في الخطط المالية للميزانية الجديدة ..منح وزارة الصحة والاطباء نسبة لا تقل عن 10 % من الناتج القومي ..فالذي بات واضحا بعد جائحة كورونا ان الاموال كانت تذهب لشراء الأسلحة وحفظ الامن ..واتى الهجوم من اضعف واهم نقطة ..صحة الانسان .
ملحوظة هامة جدا : ..الجيش الأبيض ..حقكم علينا
ملحوظة هامة جدا جدا : رمضان كريم

ناهد قرناص
الجريدة

Exit mobile version