دار لغط كثيف في الفترة الأخيرة عن بنك السودان المركزي، وعن تبعيته إدارياً. وكان الجدل حول تبعيته لرئيس الوزراء أو رئيس المجلس السيادي قد نشأ من تصريح لرئيس الوزراء قال فيه أن البنك لا يتبع له. وقد ثبت فيما بعد عدم صحة تلك المعلومة. فالوثيقة الدستورية السارية قد خصت رئيس الوزراء بكل الصلاحيات التنفيذية التي كانت لرئيس الجمهورية في السابق. وقد أصدر رئيس الوزراء بالفعل قراراً بتعيين المحافظ الجديد.
المشكلة أن العامة الذين يخوضون في شأن البنك المركزي لا فكرة لديهم أصلاً عن معنى ودور واختصاصات المصرف المركزي في أي بلد. فالبنوك المركزية ليست خزنة توضع فيها أموال “بيت المال” ويتصرف فيها المحافظ أو الشخص التابع له البنك، كما يشاء ويشتهي. لقد اطلعت على بعض الآراء مؤخراً زعم أصحابها أنهم لن يشاركوا بالتبرع لمبادرة “القومة للسودان” إذا كانت التبرعات سوف تورد في بنك السودان، ما دام البنك ليس “تابعاً” لرئيس الوزراء وبالتالي لن يستطيع التصرف في تلك الأموال! وهذا من طرائف الأمور التي ظهرت مع النشر المفتوح في الوسائط لكل من هبّ ودبّ وجهِل.
فوظائف البنك المركزي عموماً، وبنك السودان خصوصاً وفقاً لقانونه، هي إصدار العملة، وفق آليات معينة يعرفها الخبراء في مجال النقود والسياسات النقدية للدول، والمحافظة على أسعار صرف العملة الوطنية، والإشراف على النظام المصرفي في البلاد، ووضع السياسة النقدية للدولة بما يحقق أهدافها الاقتصادية، والعمل كبنك للحكومة ومستشاراً ووكيلاً لها في الأمور النقدية.
والبنك المركزي، في أي بلاد من بلدان الدنيا، يتمتع باستقلالية كبيرة عن السلطة التنفيذية، في رسم وتنفيذ سياساته التي تحقق وظائفه المذكورة. وتبعيته المزعومة لرئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس مجلس السيادة لا تغير من هذا الأمر شيئاً، إذ لا تملك السلطة سوى ترشيح واعتماد المحافظ ومجلس الإدارة، ولكنها لا تسيطر عليه وتسيره كيف تشاء.
وبنك السودان، مثل أي بنك آخر، هو أيضاً مستودع لحسابات الوحدات الحكومية، من وزارات وهيئات ومؤسسات وشركات، تودع فيه أموالها وتسحب منها وفق قوانينها ولوائحها وسياساتها وبرامجها. ولا دخل للبنك في هذه الحالة في هذا المال ولا كيفية التصرف فيه. فإذا فتحت مبادرة “القومة للسودان” حساباً في بنك السودان أو أي بنك آخر، فإن السحب من ذلك الحساب يكون رهناً بالتوقيعات المعتمدة عند فتح الحساب، وتفويض الجهة التي يتبع لها الحساب.
أما البنك كجهة مختصة في إصدار العملة وتحديد سعر صرفها، فهو ينسق مع السلطات المالية والاقتصادية في البلاد، التي يستقي منها المؤشرات والتوجهات، ويعمل في توافق معها لتحقيق أهداف السياسة الكلية للدولة. فلا يستطيع البنك المركزي أن يجعل الدولار عندنا، مثلا، بجنيه واحد. ذلك أن سعر تبادل العملة مقابل العملات الأخرى تحكمه معطيات موضوعية في الاقتصاد وموازين التجارة والمال وقانون العرض والطلب. ولا يستطيع البنك أن يطبع كميات لا محدودة من الأوراق النقدية حتى تصبح الحكومة غنية! ذلك أن مهمة البنك هي السيطرة على سعر العملة ومستوى التضخم، وهذه مؤشرات لا يمكن التحكم بها إلا بالتحكم في كميات النقود المطبوعة والمطروحة للتداول.
من ناحية أخرى، فإن تبعية البنك لهذا المسؤول أو ذاك، لا تغير كثيراً في هذه المعطيات والسياسات. لأن ما يغير فعلاً هو حجم الناتج الاقتصادي الحقيقي للبلاد. ولذلك، فمن أراد أن يوفر السلع وبأسعار معقولة، ومن أراد رفع سعر تبادل الجنيه وخفض الدولار، فعليه بالإنتاج ثم الإنتاج، وليس البحث عن تبعية البنك. ولا توجد أي خيارات أخرى.
د. الصاوي يوسف
الصيجة