الناس بالمجمل أكثر ميلاً لتصديق الأخبار الكاذبة ، دراسات عديدة أجريت علي عالم مواقع التواصل الأجتماعي ، جميعها أكدت شيئاً واحداً أن الأخبار الكاذبة أكثر رواجاً من الأخبار الحقيقية بعشرين ضعفاً ..
أن السياسة التي نتبعها اليوم و التي نعتقد أنها أكثر قدرة علي تأثير الرأي العام ليست صحيحة ، الحسابات الكبرى ليست هي التي تصنع الأخبار أو أولويات النشر ، أصحاب الحسابات الصغيرة والذين لديهم عدد أصدقاء و متابعين صغير هم الذين يفعلون ..
أستراتيجية الذباب الألكتروني و النشر المكثف عبر حسابات وهمية أو تطبيقات تنتحل أسماء حقيقية ، هي في الأساس نظرية علمية ، ليست عملاً عشوائياً ، و كل هذه الأستراتيجيات قيد المراجعة و التطوير اليومي ، و توفر ساحة مواقع التواصل الأجتماعية عينات كبيرة يمكن أختبار تأثير هذه الأستراتيجيات عليها ، برضاها ..
فهمنا البدائي للأنسان و تخلفنا عن العالم بحكم لغتنا التي تحجبنا عن الجديد هو ما يعقينا عن معرفة ما يجرى في الساحة منذ ديسمبر و حتي اليوم ، أذ نستمر في ترديد مقولات كصناعة الوعي بالحقيقة و حشد الحقائق و الأدلة .. و أن الناس يرفضون تقبل الحقائق ويصمون أذانهم .. أوأنهم يصمون مخالفي التيار العام “الغوغائي ” بأنهم كذا و كذا بطفولية شديدة .. دعنا نشير الي حقيقة في غاية الأهمية ، عقول الناس البسطاء -وهم غالبية ساحقة – لا تقوم بالتفكير بالطريقة التي نعتقدها كنخبة ، عقول البشر مثقلة بالتحيزات ، و تحيزاتنا الأيدلوجية و السياسية و ربما العاطفية تجعل الدماغ يتجاهل و يسقط عن عمد كل الدلائل التي يمكن أن تؤدي الي تفكيك منظومته أو زحزحة أنحيازاته ..
ولذلك فأن التعريف الماركسي للأدلوجة ، أي منظومة التفكير و القياس ، كقناع يحجب عن صاحبه أدراك الواقع هو توصيف دقيق ، ماركس كان يعرف أن أهمال هولاء العمال لأدلة -عديدة وبسيطة – تبين لهم كيف يقوم رب العمل بأستغلالهم ، أو كيف يجب عليهم الأتحاد للمطالبة بحقوقهم مما سيعود بالنفع عليهم ، جعلته يفهم أن ما يحجب هذه الحقائق البدهية عنهم هو نظام التفكير نفسه و الذي يقوم مقام النظارة التي تنظر بها للعالم ، نظارة تركز فقط علي جوانب بعينها ، نظارة عرفوا العالم من خلالها و شكلتهم .. صارت جزءاً من هويتهم .. تهديد هذه النظارة هو تهديد لهذا العالم و هذه الهوية .. من هنا يمكنك أن تكون أكثر فهماً للعاطفة التي تنفجر في وجهك عند الكلام عن أن صلاح قوش قد فتح الطريق الي القيادة و رتب للأنقلاب العسكري علي البشير مستغلاً الشارع ، هذه الكلمات تقدح في شعور عارم بالرضا و القدرة أجتاح ألاف الشباب ، رضا ناجم عن الأنتصار علي خصم يمثل لهم كل ما يجب أن يكرهونه .. و أنت ببساطة تسحب منهم هذا الأنتصار “المتوهم ” و الذي صار يشكل جزءاً منهم ..ليسوا مستعدين للتخلي عنه ..
من السهل أن نتحدث عن التفكير النقدي ، لكننا نغفل أن أستخدام هذه الأداة يحتاج في الأساس الي التخلي عن جانب من الهوية الفردية أو الجماعية المليئة “بالتحيزات ” و النقاط العمياء .. و لذلك ليس صدفة أن الجماعات السلفية تبدو متشددة للغاية تجاه هذه الأدوات ، هذا التشدد ميكانزمية دفاعية فطرية تطورها الجماعات و الأفراد دفاعاً عن “هوياتهم ” ..
و السلفية الي نتحدث عنها ليست سلفية دينية فقط ، قد تكون سلفية أجتماعية غارقة في المحلية ، أو سلفية سياسية غارقة في الأدوات القديمة ..
ختاماً ، و أمعاناً في السخرية من عملية “التثقيف ” الفيسبوكي هذه ، فأن الاحصائيات تخبرنا بأن هذه العمليات تقود الي نتائجة عكسية ، تقود الي مزيد من التعنت والتمسك بالمواقف ” الشعبوية ” ..
و أن أستمرارنا في هذه النقاشات هو ما يخلق حالة ” كي و كيداً ” و أخواتهما .. تخيل أن تقوم أحزاب سياسية بأستغلال عقلية أنثى “التكل ” في صناعة توجه سياسي عام للتبرع !
هذه الأحزاب و لما أنهزمت و هي تستخدم الخطابات العالمة و الفوقية ، كفرت بكل أدبياتها و برامجها ، كفرت بالتثقيف و المثقف ، و قررت الأنخراط في السياسة علي هذه الأسس الشعبوية ، سياسة تقوم علي أن تعطي الجماهير كل يوم ثوراً لتلهو معه ثم تذبحه ، سياسة جعلت لا فرق يذكر بين حزب البعث و الشيوعي و حزب الأمة ، لا أختلاف في الممارسة بين الفكي الأتحادي و ياسر العطا العسكري ، بين صديق تاور البعثي و صديق تاور الذي يرشحه حزب الأمة ..
أشياء كثيرة في البال .. و أصنام كثيرة في الواقع ..
عبد الرحمن عمسيب