آخر سنوات “البشير” (29،28ـ30)

آخر سنوات “البشير” (28)
• في مطلع سبتمبر 2019م ، أصدر الرئيس السابق المشير “عمر البشير” مراسيم جمهورية بحل حكومة الفريق أول”بكري حسن صالح” ،وتعيين “معتز موسى” رئيساً للوزراء .
• قبل صدور المراسيم الجمهورية، عقد المكتب القيادي للمؤتمر الوطني اجتماعاً مهماً لإجازة مقترحات الرئيس بحل الحكومة، واختيار رئيس وزراء، واعتماد المرشحين لمناصب الوزراء ووزراء الدولة.
• بُعيد منتصف الليل ، خرج نائب رئيس الحزب الدكتور “فيصل حسن إبراهيم” ليعلن للصحفيين ومراسلي التلفزة المحلية والأجنبية من مقر الحزب الحاكم بشارع أفريقيا ، اعتماد المكتب القيادي لـ”معتز موسى” رئيساً للوزراء ، مع استمرار الفريق أول”بكري حسن صالح” في منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية . وتلا “فيصل” أسماء الوزراء المرشحين على عجل ، وبدا مرهقاً ومضطرباً وهو يواجه الكاميرات ليقدم تلخيصاً لقرارات المكتب القيادي . كان مفاجئاً للجميع ذكر اسم دكتور “عبدالله حمدوك” وزيراً للمالية والاقتصاد الوطني !!
• لم يكن أحد من الصحفيين الواقفين أمام “فيصل” يعرف شيئاً عن “حمدوك” ، كما لم يسمع اسمه معظم رؤساء التحرير القابعين في المكاتب أو البيوت ينتظرون بفارغ الصبر إعلان تشكيلة (حكومة الفرج) التي ربما تفلح في إصلاح ما أفسدته حكومة (بكري – مبارك الفاضل – الركابي)، وقد كان هذا الثلاثي مسؤولاً بصورة مباشرة عن ميزانية 2018م الكارثية التي مثّلت بداية انهيار النظام .
• دار نقاش داخل اجتماع المكتب القيادي حول ترشيح السكرتير التنفيذي السابق للمجلس الاقتصادي للأمم المتحدة بأفريقيا ومقره “أديس أبابا” وزيراً للمالية ، وكان “البشير” قد طرح اسم “حمدوك” مشيراً إلى خلفيته الأكاديمية وخبراته الدولية. وذكرت لي مصادر متطابقة أن وزيرة الرعاية الاجتماعية الأسبق السيدة “أميرة الفاضل” التي تعمل مفوضة للشؤون الاجتماعية بالاتحاد الأفريقي هي من رشح “حمدوك” للرئيس “البشير” ورئيس الوزراء “معتز” ، باعتباره كفاءة اقتصادية يمكنها المساعدة في علاج أزمة السودان الاقتصادية التي بدأت مؤشراتها في التصاعد مع مطلع العام 2018م .
• ويبدو أن صداقةً نشأت حديثاً بين أسرتي “أميرة الفاضل” وزوجها سفير السودان لدى إثيوبيا “الصادق بخيت” وأسرة الموظف الأممي الدكتور “حمدوك”، وقد توثقت الصلات الحميمة في كنف مدينة الدفء والحنان ، فتلاشت الولاءات السياسية بين (الأخ وزوجته الأخت المسلمة) و(الشيوعي السابق) في غُربةٍ مخملية بطعم القهوة الحبشية تحت رزاز المطر الفاتر !!
• في اجتماع المكتب القيادي الذي تحمس فيه “البشير” و”فيصل” لترشيح “حمدوك”، تحفظ عضو المكتب الدكتور”نافع علي نافع” على ترشيح “حمدوك” وإعلانه ، وقال في مداخلته :(انتوا يا جماعة .. “حمدوك” دا وافق ليكم..لأنو حسب معلوماتي الرجل دا شيوعي؟!) فرد “فيصل” بأنه وافق مبدئياً ، وقد عزا البعض في الحزب لاحقاً حماس “فيصل” لترشيح”حمدوك” إلى منطلقات جهوية ، وأن الرجلين من “كردفان” وليس إلا !
• غير أن “نافع” أصر على موقفه وقال في الاجتماع :(حقو الناس تتريث قبل إعلان اسمه) ، لكن الاجتماع لم يأبه لكلام “نافع” ما دام الرئيس موافقاً وكذا نائبه في الحزب، فأعلن”فيصل” اسم “حمدوك” وزيراً للمالية ، ولم يبال !
• اعتذر “حمدوك” عن المنصب بعد يومين، بخطاب رقيق موجه إلى رئيس الجمهورية السابق ، حدد فيه أسباباً خاصة اضطرته للاعتذار ، ولم يشر لموقف سياسي، وشكر “البشير” على ثقته فيه .
• في ظل حالة الارتباك السياسي التي كانت تضرب الدولة في تلك الفترة ، خاصة بعد اعتذار عدد من المرشحين للوزارات أبرزهم المرشح لمقعد وزير الدولة للخارجية السفير “عمر مانيس”، احتفظ “معتز موسى” بحقيبتي رئيس الوزراء ووزير المالية !! وأخذ بعض حارقي البخور لرئيس الحكومة الجديد يبررون لاحتفاظه بالمنصبين ، باستدعاء نماذج من التاريخ ، منها جمع الرئيس الأسبق “جعفر نميري” بين رئاسة الجمهورية ووزارة المالية لبضعة شهور في سبعينيات القرن الماضي !!
• وكما كان متوقعاً .. فشل “معتز” بخبراته المحدودة وتجاربه الإدارية المحصورة في ملف تخطيط وتمويل “سد مروي” في إصلاح ما أفسده سابقوه ، فزاد الطين بلة ، وأطلت أزمة السيولة النقدية في البنوك بشكل غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث !! وتحولت المصارف وصرافاتها الآلية إلى خرابات .. خاوية خزائنها من جنيه !!

آخر سنوات “البشير” (29)
منذ 3 دقائق
قبيل تعيين “معتز موسى” رئيساً للوزراء بأيام ، راجت معلومات انتشرت على نطاق واسع عن اتجاه “البشير” للدفع بالدكتور “عوض أحمد الجاز” لمنصب رئيس الحكومة خلفاً للجنرال “بكري حسن صالح” ، وليته فعل !

يتمتع دكتور “الجاز” بخبرات تنفيذية عالية، وقدرات هائلة على المتابعة والإنجاز، مع همة لا تفتر مع تقدم العمر ورهق السنين . ويكفي الرجل فخراً ورصيداً في سجلات الإنجاز على مرّ الحكومات الوطنية منذ الاستقلال المجيد في يناير 1956م ، أنه مُفجِّر ثورة البترول السوداني، وصاحب امتياز أهم مشروع اقتصادي نقل بلادنا من خانة الاستهلاك إلى قائمة الدول المصدِّرة للنفط ، بشراكة ذكية مع جمهورية “الصين”، ابتداءً من نهاية العام 1999م إلى العام 2011م ، تاريخ انفصال جنوب السودان، والتحاقها بنادي الدول الفاشلة، رغم حيازتها لثلثي بترول “عوض الجاز” الذي سهر وشقي عليه عشر سنوات طويلة، قبل أن يأتي مناديب الولايات المتحدة الأمريكية و(الماسونية) العالمية، تحت ستار (اتفاقية السلام الشامل)، لينسفوا بنيان دولة البترول الناهضة، ويحيلوا ورثتها (السودان وجنوب السودان) إلى دولتين فقيرتين فاشلتين!!

كان الرئيس”البشير” قاب قوسين أو أدنى من تعيين “عوض الجاز” رئيساً للوزراء، وذكرت لي مصادر قريبة من (القصر) أن الرئيس ألمح له بذلك قبل يوم واحد من اجتماع المكتب القيادي المخصص لتعديل الحكومة.

غير أن معلومة مفخخة طارت إلى الرئيس في لحظة فاصلة، حملت إليه بخبث تفاصيل تفاهمات جرت بين “الجاز” ومدير جهاز الأمن”صلاح قوش” ورئيس القطاع السياسي للحزب “عبدالرحمن الخضر” للعمل على دعم ترشيح “الجاز” لرئاسة الوزراء، فانقلب “البشير” من موقفه الأول بزاوية (180) درجة، وغضب لما بلغه من تكتل يحمل ملامح (قبلية)، فالثلاثة المذكورون ينحدرون إلى مناطق “الشايقية” بالولاية الشمالية!

أفسد أحد رجال الرئيس كل ترتيبات (إعادة الروح) إلى حكومة في مهب الريح، فقدت قدرتها تماماً على معالجة الأزمة الاقتصادية المستفحلة يوماً بعد يوم، وبدأت ملامح انهيار الدولة تلوح على الأفق، وكان لابد من رجل دولة قوي يحيي الأمل في نفوس الملايين المُحبَطة، ولم يكن في كنانة المؤتمر الوطني غير “عوض الجاز” يقوم مقام رجل (الإنقاذ)، أولاً : لشخصيته الإدارية الصارمة، ثانياً : لخبرته في قطاع النفط، ثالثاً : لعلاقته الوثيقة والعميقة بالقيادة الصينية التي تثق فيه وتفضل التعامل معه، وكان مأمولاً دخولها معه في شراكات اقتصادية جديدة بعد الشراكة الأولى الناجحة في مشروع البترول، لانتشال السودان من وهدته الثانية !

لجأ الرئيس إلى (الخطة ب)، وقدّم المرشح الثاني من (قائمة الثقة) وزير الموارد المائية والكهرباء “معتز موسى”، وهو من أسرة الرئيس من قرية “صراصر” بولاية الجزيرة.

كان واضحاً خلال سنوات حكم “البشير” الأخيرة، أنه كان يميل إلى ترفيع أصحاب (الولاء الشخصي) له، على مرشحي الحزب والحركة الإسلامية ، كما أنه أكثر من إبعاد (النجوم) أصحاب النفوذ و(الكاريزما) وجمع إليه شلةً من الضِعاف بشخصيات باهتة، وكان أبرز نموذج تجلت فيه هذه الحالة، مضايقة الرئيس المستمرة لوزير الخارجية الأسبق البروفيسور “إبراهيم غندور”، لما نُقِل إليه من أصحاب الغرض بأن “غندور” يطمح إلى كرسي رئاسة الجمهورية !! ورغم أن الرجل نفى للإعلام رغبته في الرئاسة أكثر من مرة، إلاّ أن “البشير” لم ينس تلك (القوالة)، فعمد إلى توزيع ملفات الخارجية على لجنة برئاسة “عوض الجاز” للإشراف على العلاقات مع دول(BRICS) ، البريكس، وهي البرازيل،روسيا، الهند، الصين وجنوب أفريقيا، وتعتبر أسرع دول العالم نماءً اقتصادياً . وإذا لم يكن وزير الخارجية مسؤولاً عن تطوير العلاقات مع دول عظمى مثل روسيا والصين ، فما هي أهمية الوزارة، وهل ينحصر دور الوزير في تنمية العلاقات مع تشاد وجنوب السودان وأفريقيا الوسطى ، علماً بأن ملف العلاقة مع دول (الخليج) يتبع للرئيس ومدير مكتبه!!

لم يكن مفيداً للدولة ولا للدكتور”عوض الجاز” أن يرأس لجنة بدرجة مساعد رئيس ، تتنازع سلطات وملفات مجلس الوزراء ووزارة الخارجية ، وقد كان هذا أحد أخطاء الرئيس السابق الفادحة.

لم يستطع “الجاز” أن يعمل بحرية في لجنة “البريكس”، وفي ذات الوقت أثار نقل الملفات من الخارجية إلى اللجنة غضب الوزير “غندور”، وكان من حقه أن يغضب وأن يرفض إدارة السفراء من وراء ظهره .

وغير نقل الملفات المهمة إلى لجنة “البريكس”، فإن رئاسة الجمهورية مارست تضييقاً مالياً على وزارة الخارجية، فتأخرت مرتبات السفارات لستة أشهر، ما اضطر الوزير إلى مخاطبة البرلمان في جلسة علنية عن الحالة المتردية التي تعاني منها سفارات السودان بالخارج، لدرجة أن بعض السفراء طلب من الوزير السماح لهم بالعودة إلى السودان، بسبب العجز عن الوفاء بالمتطلبات المعيشية في تلك الدول.

أعفى الرئيس وزير الخارجية “غندور”، بسبب خطابه (المُتعمد) أمام البرلمان، وفي ذات الوقت لم يُعيِّن “عوض الجاز” رئيساً للوزراء، فمضى إلى حتفه المحتوم ، يقود سفينةً مثقوبة في بحر لُجيٍ متلاطم الأمواج .

آخر سنوات “البشير” (30)
تصعيد “البشير” لأصحاب (الولاء الشخصي) له، تجلى في تعيينه “معتز موسى” رئيساً للوزراء، وهو أحد أفراد أسرته، رغم انتمائه الجاد في سن مبكرة لتنظيم الحركة الإسلامية ، كما ظهر في اختيار “فيصل حسن إبراهيم” نائباً لرئيس الحزب، بعد خلافه مع مجموعة دكتور “نافع” وهي تمثل التيار الأكبر داخل الحزب. وفي وقت لاحق ، وأثناء اندلاع ثورة ديسمبر ، دفع الرئيس بأحد المخلصين له والمختلفين باستمرار مع قيادة الحزب، وهو والي الجزيرة “محمد طاهر أيلا” لمنصب رئيس الوزراء، وسط دهشة الكثيرين داخل وخارج المؤتمر الوطني .
انطلقت شرارة الاحتجاجات الشعبية على تردي الأوضاع الاقتصادية من مدينة “الدمازين” في أقصى الجنوب يوم (13) ديسمبر، وقادها تلاميذ المدارس لعدم توفر الخبز لوجبة الإفطار ثم انتقلت الاحتجاجات بسبب الخبز أيضاً إلى “عطبرة” و”بورتسودان” بعد أن قرر الوالي في كل من نهر النيل والبحر الأحمر رفع سعر الرغيفة إلى جنيهين! وكانت أزمة الخبز قد ضربت كل مدن البلاد بما فيها العاصمة “الخرطوم” ، فأطاحت الأزمات الثلاث (الوقود ، السيولة والخبز) مع توالي ارتفاع الدولار مقابل الجنيه بحكومة “معتز موسى” .
تدخل جهاز الأمن والمخابرات بقيادة الفريق أول “صلاح قوش” بطلب من الرئيس في متابعة ملفات الأزمة الاقتصادية (الدقيق ، السيولة والوقود)، وبينما بذل “معتز” مجهوداً كبيراً في السعي لحل الأزمة، بالتواصل اليومي مع محافظ بنك السودان “محمد خير الزبير” الذي جيء به مرة أخرى محافظاً للبنك المركزي في محاولة للاستفادة من خبراته الطويلة، إلاّ أن “معتز” كان يعمل وحده، ويرهق نفسه في زيارات ميدانية لإدارة المخزون الاستراتيجي للوقوف على موقف احتياطي القمح، وصندوق الإمدادات الطبية للاطمئنان على وضع الدواء، ومصفاة الجيلي للتعرف على كميات الإنتاج من البنزين والجازولين والغاز، كما زار عدداً من الصرافات الآلية في الخرطوم للتأكد من توفر النقد في بطونها ، وغالباً لم يكن يجد نقداً !!
كان “معتز” يقود حكومة ضعيفة ، اختارها بنفسه بحيث لا تضم (ماكينات كبيرة) ولا نجوماً معروفة، حكومة سقفها في الخبرة والنجومية الشاب “معتز”، فكان مفهوماً أن تتعثر .
بالمقابل، لم يكن واضحاً للمراقبين أن جهاز الأمن كان يساعد “معتز” في إنجاح مهمته لتجاوز الأزمات والعبور بالبلاد إلى بر الأمان !
كان دور الجهاز غامضاً ، فرغم تولي أفراده مسؤولية الرقابة على محطات الوقود ومطاحن الدقيق والمخابز في العاصمة والولايات ،إلاّ أن تقارير مؤكدة كانت تشير إلى استمرار تسرب الوقود من الشركات ومحطات الخدمة إلى السوق السوداء، بالتزامن مع بيع حصص دقيق المخابز إلى مصانع البسكويت والمكرونة والشعيرية !!
بدا أن هناك أيادٍ خفية كانت تعطل عمل “معتز” ، وتتقاطع معه في إدارة الجهاز التنفيذي للدولة، وسرت في تلك الأيام معلومات عن خلافات بين “قوش” و”معتز” ، فاضطر الأخير إلى نفيها في أجهزة الإعلام !
كان صخب الثورة يتصاعد في شوارع الخرطوم، ورئيس الحكومة عاجز عن فعل شيء في مواجهة سيل الأزمات المتلاطم ، وعاجز كذلك عن مساعدة (خاله) رئيس الجمهورية في تقديم مقترحات عملية لاحتواء حالة الانفجار السياسي بالتواصل مع قادة المعارضة .
في تلك الأثناء.. كان “قوش” يفتح مساراً آخر نحو التغيير ، يتجاوز حكومة الدبلوماسي البريء “معتز موسى” الذي تاه في زحام الصراع الساخن ، ولم يجد (الكرة) ليسدد بها هدفاً في مرمى الأزمات !
لقد أخفى “قوش” الكرة عن الرئيس وعن قريبه المتحمس رئيس الوزراء !!

نواصل غداً .
الهندي عزالدين

Exit mobile version