“الموت حقٌ والحياة باطلة، والمرء لا يعيش مهما عاش إلا ليموت” فجر الأربعاء كان وجه “ضيو مطوك” كبير أعضاء الوساطة الجنوبية لمحادثات السلام السودانية ينوء بحملٍ ثقيل، كالجبال، وهو ينقل للسودانيين هذه المرة خبراً فاجعاً، لا كعادته في التبشير بإحراز تقدم في ملف الترتيبات الأمنية، وإنما رحيل حامل صخرة التفاوض لبلوغ قمة جبل السلام، دون كلل، ورئيس الوفد الحكومي، الفريق جمال عمر، ذلك الرحيل المباغت المُتعجل، لرجل كان يعمل بصورة سيزيفية متواصلة، ويسعى بصدق لترجمة العبارة العسكرية “أرضاً سلاح” أو بالأحرى يَعبُر بخفة ذلك الاعتقاد الراسخ في رواية “عماد براكة” ذاكرة قبل المونتاج، بأن بلاد السودان “كل ما حاولت أن تنهض تتكئ على بُندقية”
ملابسات الرحيل.
مساء الثلاثاء، أي في تمام العاشرة ليلاً، كان سريان حظر التجوال في العاصمة السودانية الخرطوم قد بلغ ساعته الثانية، وقتها كان الفريق جمال عمر يتأهب لترتيب أوراق التفاوض، في فندق بريمد بالعاصمة الجنوبية، معبداً الدروب لخطوة مهمة، كانت الطيور قد هجعت أخيراً فوق أشجار الصنوبر والأبنوس في المدينة الوارفة، انسل الفريق جمال وفقاً لمتابعات “سودان فيرست” إلى داخل مطعم الفندق مع بعض أعضاء فريق التفاوض الحكومي وتناول وجبة العشاء الأخير، بعدها جلس داخل الكافتيريا لتناول الشاي، وهو يتأمل رحلة الرهق المديدة، وقد ألهم العملية السلمية كل معاني المكابدة والتضحيات، عندها شعر ب”حيرقان” في المعدة، فاستاذن من معه وذهب إلى الغرفة وطلب من الحرس ان يحضر له بعض الأدوية من الصيدلية. بعد عودة الحرس إلى الغرفة كان قد دخل في حالة “كوما” ورشح أنها ذبحة قلبية مُباغتة، فتم إسعافه إلى المستشفى، إلا ان المنية وافته في الساعة الواحدة صباحاً تقريباً، وقد ضوعت روحه الزكية أرجاء البلاد التي أفنى في دروبها وأحراشها وثكناتها جل سنوات عمره.
نعي العدل والمساواة
حركة العدل والمساواة بادرت بنعي وزير الدفاع لحكومة السودان الانتقاليةد واعتبرت رحيله في هذه المرحلة المفصلية خسارة كبيرة، ونعاه رئيس الوزراء عبد الله حمدوك ووصفه بالزميل الخلوق صاحب الاسهامات المقدرة، فيما علقت الوساطة المفاوضات الجارية حالياً في جوبا لمدة أسبوع ابتداءً من اليوم ٢٥ مارس ٢٠٢٠ نسبة للغياب الاضطراري لوفد حكومة السودان، أما الجيش فقد تأخر نعيه، ربما لتأكيد ملابسات الوفاة، وقد فقد أحد أبرز قادته العِظام، وأقدم الجنرالات حالياً في الخدمة تقريباً، وهي الأقدمية التي أهلته لتولي وزارة الدفاع، في مرحلة انتقالية استثنائية، اختارت فيها القوات المسلحة الوقوف إلى جانب الشعب والانحياز إلى الثورة المجيدة، وأبلى جمال عمر مع بقية الضباط الكبار في إحكام قبضتهم على السُّلطة في ١١ أبريل من العام الماضي، وحراسه مرحلة تعتورها مصاعب وتحديات جمة.
ميلاد ومحطات
شب الفريق جمال عمر عن الطوق في منطقة حجر العسل بولاية نهر النيل، وهي المنطقة التي رفدت القوات المسلحة بآلاف الضباط والجنود، كما انه ينتسب للدفعة 31 بالكلية الحربية، ومن زملائه بالكلية حينها رئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان ومدير جهاز المخابرات العامة السابق الفريق ابوبكر دمبلاب ورئيس اللجنة السياسية السابق بالمجلس العسكري الفريق أول ركن عمر زين العابدين والفريق جلال الشيخ، إلى جانب تدرجه في عدة مواقع عسكرية مهمة بعد تخرجه في “مصنع الرجال وعرين الأبطال” أو كما توصف الكلية الحربية السودانية، وقد أنفق وقتاً طويلاً في هيئة الاستخبارات العسكرية حتى مارس 2017 ليتم تكليف الفريق أول مصطفى محمد مصطفى بدلاً منه، وأصبح هو أميناً عاماً لوزارة الدفاع، حيث تربطه علاقات وطيدة مع وزير الدفاع السابق الفريق أول ركن عوض ابن عوف وعملا معاً في هيئة الاستخبارات لوقت صعيب، وعند وصوله لرتبة اللواء أحيل للمعاش وتمت إعادته للخدمة بقرار من عوض ابن عوف رئيس المجلس العسكري الانتقالي السابق، والذي أذاع بيان إزاحة المشير عمر البشير، والتحفظ عليه في مكان آمن، إذ كان جمال عمر يعاونه في تلك المهمة الخطرة.
الفقيد أيضاً عاش طفولته بقشلاق سلاح النقل، عندما كان والده رقيباً في الجيش، وتجول ما بين وحدات اللواء الرابع القضارف وقطاع البحر الأحمر، ومدرسة الشئون الإدارية وسلاح النقل والصيانة ومنطقة بحري العسكرية والإستوائية، وعمل في محطات خارجية ملحقا عسكرياً بنيروبي، بعدها أبتعث للدراسة بسوريا كلية الدفاع الوطني لمدة عام، ومن ثم عمل مديرا لإدارة العلاقات الدولية ومديراً لإدارة المعلومات، ومديرا لإدارة الإستخبارات البرية بهيئة الاستخبارات العسكرية، كما شارك ضمن بعض اللجان الخاصة بملف دارفور والترتيبات الأمنية الخاصة ببعض الحركات المسلحة التي قامت بالتوقيع على اتفاقات سلام مع الحكومة السابقة.
عودة وترقية
في أبريل 2019م تمت ترقية جمال عمر إلى رتبة الفريق أول ركن وتعيينه رئيساً للجنة الأمن والدفاع بالمجلس العسكري خلفاً للفريق أول مصطفى محمد مصطفى الذي استقال من عضوية المجلس العسكري لظروف صحية، في سبمتبر 2019م تم إعلانه من قبل المكون العسكري بالمجلس السيادي وزيراً للدفاع، ليبقى في الموقع المهم والأخطر مع إقالات متواصلة، أشبه بإعادة الهيكلة، وهو يعتبر شخصية متفردة عن بقية رفاقه، قليل الكلام، يعمل في صمت وبشكل دؤوب لأوقات طويلة، وينام لساعات قليلة أحياناً، ويعمل طوال الليل، كما أنه يتمتع بحس استخباراتي عالٍ، جعله صمام أمان المكون العسكري في الحكومة، ومن محاولات الانقلابات التي انفتت شهيتها مؤخراً، وخط الدفاع الآخير، ويعتبر خازن أسرار الجيش خلال خدمته الطويلة الممتازة، والتي وضع لها الموت حداً في جوبا، على نحوٍ مفاجئ ومربك، وبين يدي إنجازٍ جديد، كان سينهي معاناة الشعب السوداني مع الحرب الطويلة أيضاً.
نعي البرهان
احتسب رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة والنائب الأول لرئيس المجلس وأعضاء المجلس عند الله وزير الدفاع الفريق أول ركن جمال عمر محمد إبراهيم الذي اختاره الله تعالى إلى جواره فجر اليوم بعاصمة دولة جنوب السودان شهيداً، وهو يدافع ويكافح من أجل استقرار السودان وسلامته وعزته، وقال إعلام المجس في بيان تلقت صحيفة (سودان فيرست) نسخة منه صباح الأربعاء، إن الفقيد ظل طيلة فترة حياته العملية مثالاً للبذل والعطاء والتفاني من أجل الوطن وعزته ورفعته.
بلا لون سياسي
لا أحد يعرف ما هو اللون السياسي للفريق الراحل جمال عمر، لأن عسكريته كانت طاغية على كل شيء، وقد ظل بعيداً عن الأضواء، فهو بالمرة ينتمي للمؤسسة التي ترقى فيها ورشقت كتفه بالنجوم والنياشين، وكان يسعى حتى آخر لحظة في حياته لبناء جيش قومي موحد بعيداً عن الانتماءات السياسية، معرباً عن أمله فى أن يكون الجيش الذى يقود البلاد فى المرحلة المقبلة، يمثل كل السودان ويحمي حدوده ويشكل درعاً آمناً، وكان يسعى أيضاً لإكمال ملف الترتيبات الأمنية، على نحوٍ يضمن توافق كافة الفرقاء والعبور الآمن بالسودان، وإخماد صوت لعلعة الرصاص مرة وإلى الأبد، فهل تتحقق أمنياته؟
عزمي عبد الرازق
سودان فيرست