كان الفجرُ في كرري ذلك اليوم كرنفالاً للشهادة وكان الخاسر الأكبر في ذلك اليوم المشهود الموتُ والخوفُ وظهور الرجال.
كانت كل العيون والصدور والقلوب متجهة صوب زريبة كتشنر، لم تكن هنالك فرصة للتواصل غير خيوط الايمان الأثيرية بين الفرسان والدراويش. وكان الفدائي احمد محمد أب جكة المسيري الناصع العقيدة هو الرسول المؤتمن ما بين مقدمة الجيش المصادم، والخليفة كبير القوم وقائد الغر المحجلين.
ومن قلب المعركة شاهد الأمير المقدام يعقوب شقيق الخليفة أن الصفوف الأولى من الأنصار كانت تتساقط أمامه كالنجيمات وهي تغور في تراب الملحمة.
همس في أذن أب جكة: نريد الفتوي من الخليفة ( إن رصاص النصارى تقتحمنا وإن سيوفنا لا تستطيع الوصول فبماذا تشير؟
قفز أب جكة خفيفاً بالإشارة وبلغ الخليفة بسؤال يعقوب المقلق، فاستمع الخليفة للرسول في اصغاء تام، وانتظر الفدائيُ الاجابة الشفرة، ولكن الخليفة لاز بصمت مخيف وأضحت أعينه النافذتين وشفتيهه المطبقين ووجهه الذي تلوح عليه عشرات التعبيرات بلا اجابة ولا فتوى ويصمت اللسان الفصيح عن التبليغ)
خاف أب جكة من هذا الصمت الخطير فانسحب بهدوء وجرى في خفة ونشاط غير مبال بالنيران التي أحاطت بالجيش من كل الجهات. وقد وجد يعقوب ينتظره على الجمر ينتظر الفتوى، فاجتهد أب جكة في تأويل صمت الخليفة فقد أبت نفسه المحبة أن تعترف بأن الخليفة اسكتته رهبة الموقف عن الاجابة، فقال بجملة خالدة ( الخليفة قال ليكم موتوا موتكم)
وعندما اكمل أب جكة عبارته رأى الأمير يعقوب المشهد المزلزل حيث سقط أمامه مباشرة الأمير شيخ الدين بن الخليفة مدرجاً بدمائه، وسقط بجواره الشهيد محمد ود المهدي ( راجل الجبل) وقد غطت غلالة من الدم وجهه الصبوح.
هنا صاح الأمير يعقوب بصوت راسخ (الصبيان سبقوك على الجنة .. تبلدية وقعت) فطرد حصانه الأهتم الشهير صوب اللظى وهو يكبر صائحاً (في شان الله )وسقط شهيداً وصدره صوب الأعداء وهتافهه الداوي يقتحم المدى الذي اصبح لاحقاً نشيد القادمين.
وبعد استباحة إمدرمان وهي تلملم جراحها وتدفن سراً في هزيع الليل الأخير اشلاء المجاهدين القتلى،
دارت معركة أم دبيكرات أدنى من عامين.
ومرة ثانية جرب الغازي كل أسلحته النارية المحرمة انسانياً وأخلاقياً ضد جيش الخليفة المقدام.
وعندما كانت اللحظات المرصودة بأنفاس كل العواصم المسلمة الأسيرة، أطلت بدائل الانسحاب والتسليم والشهادة، اختار الخليفة الخيار الرائع الأخير فافترش فروته وبجواره الأمير علي ود حلو
والأمير احمد فضيل، هنا وقف الفدائي احمد محمد أب جكة أمام الخليفة تماما وفتح صدره للنار التي مزقته وهو يفتدي أميره على طريق الهدى والبطولة.
سقط الرجل أمام الخليفة الذي أخذ رأسه الجريح ووضعه على فخذه وهو يمسح عن وجهه أثر الدم والتراب، وقد ظنها الأمير علي ود حلو لحظة ضعف فأزاح راسه عن فخذ الخليفة، ولكن قبض ود تورشين على رأس أب جكة وقال لود حلو (أب جكة شالني عمره كله ما اشيله يوم شهادته)
وعندما اكتملت الجملة الحانية انطلق الرصاص الغادر صوب صدر الخليفة وود حلو وأحمد فضيل، فسقطوا شهداء في الحال وهم يكبرون.
وبانقضاء مساء ذلك اليوم الحزين قامت تجريدة من جيش ونجد بدفن الأطياف الأربعة التي عاشت متحابة في الله التقت عليه وتفرقت في شأنه وتوحيده.
تذكرت هذه الأيام والعالم يشهد هذه الجائحة المطبقة والوباء المتعاظم، الإجابة في صمت الخليفة والإجابة بالتأويل في إجابة أب جكة في وجه العواصم التي أدركت تماماً معنى الموت والرحيل ( قال ليكم الخليفة: موتوا موتكم).
حسين خوجلي