(سماااك …سمك ..سمك بلطي ..سمك فرش ) ..كان الرجل ينادي بأعلى صوته وهو على ظهر حمار مغلوب على امره ..يمشي بتثاقل واضح ..تاملته باستغراب ..من أين اتى ؟ يبدو غريبا في هذا الحي وهذا الزمن ..الا يزال هناك من يشتري السمك من الباعة المتجولين ؟؟
بدأ لي منظره كأن فجوة تاريخية لفظته عبر آلة الزمن من الماضي البعيد ..تذكرت بائع السمك في حينا القديم في عطبرة ..كان رجلا طويل القمة بصورة ملحوظة ..يبدو من فوق الحمار كانه واقف وليس جالسا .. يمكنك ان تراه من وراء حائط البيت القصير ..لم يكن طوله الفارع فقط ما يميزه ..كان صوته هو المختلف ..كان صوتا رخيما عميقا ضل طريقه الى الاذاعات واختار التجوال في دروب المدينة الصغيرة ..لم يكن يبذل جهدا في جعله مسموعا ..كان ينادي بهدوء الواثق من رزق ربه ..(سماااك ..حمام النيل ) ..وكنت اضحك في سري من عبارة (حمام النيل) تلك ..اذ كان عقلي الصغير يتساءل كيف للحمام ان يطير ويسبح في ذات الوقت؟؟ ..يبدو انه كان علي الانتظار حتى اكبر لاعرف ان هناك سمكا يدعى (الحمام )..
(سماااك ..سمك بلطي ..سمك عجل ..سمك فرش ) ..تابعته باشفاق ..لا احد يفتح بابه ليشتري منه ..بدا لي كمثل الذي لبث ميتا مائه عام ثم بعثه الله ..فوجد كل شئ مختلفا ..لكن حماره ظل كما هو (لم يتسنه) ..يا صديقي ..لا احد يشتري السمك من الشارع هذه الأيام ..وفي هذه الاحياء بالذات ..اظلنا زمن الكورونا التي الزمت الجميع بيوتها ..عكف أغلب سكان العاصمة داخل بيوتهم بعد أن افرغوا المتاجر الكبرى من بضاعتها وتركوا الأرفف تصفر الريح بين جنباتها بعد ان فرغت جيبهم..
بالامس سألت عن سعر المعقم اليدوي الذي كان بسعر 50 جنيها ..فوجدته قد صار ب(300) جنيه ..هذا ان وجد ..اما الكمامات فقد اختفت بعد ان بلغ سعر الواحدة مائة من الجنيهات ..الطريف ان الكمامة لا ينصح باستخدامها الا ان كنت مصابا ..او مرافقا لمصاب ..وبما ان عدد الاصابات المعتمدة رسميا حتى الآن هي 1 فقط ..يبقى ما هو سبب اختفاءها ؟؟ الا جشع التجار الذي وجد فرصة سانحة ولم يراع فينا الا ولا ذمة.
(سماااك بلطي ..سمك عجل ..) ..اشفقت عليه حقيقة . ..التفت الي ..تلاقت نظراتنا برهة ..كان اعينه مليئة بالرجاء ..وكانه يطلب مني شراء سمك منه ..اني اسفة يا اخي ..انا لا أسكن هنا ..اخرجني الذي اتى بك يا رفيق الصباح ..كلانا يبحث عن رزقه ..لا استطيع شراء السمك صباحا وادخاله المعمل ..خاصة مع حالة الطوارئ المعلنه في البلاد ..
صديقي بائع السمك لو ارتدى كمامة وثيابا نظيفة وبذل مجهودا صغيرا في تنظيف وترتيب السمك ..وتضافرت جهوده مع صاحب ثلاجة ..لاستطاع ان يبتكر عهدا جديدا من العرض في زمن الكورونا ..ديلفري السمك الى المنازل ..بعد ان صار خيار المكوث في البيوت هو الأفضل …الصين تفوقت على الجميع وكان التوصيل الى المنازل مهمة (الروبوت ) ..يمكن لكل الذين يعملون في مجال البيع والشراء التفكير خارج الصندوق ..ربما ياتي زمن لا يفتح الرجل بابه الا لادخال شئ ..او التخلص من آخر …
هممت ان احادثه بفكرتي هذه ..لكنه كان قد ابتعد وتابعته بناظري حتى صار نقطة في الافق ..غير ان صدى صوته لا زال يتردد في الهواء (سماااك ..بلطي ..عجل ..سمااااك).
ناهد قرناص