كنتُ على بصيرة واضحة من أمر ما يسمّى بقوى الحرية والتغيير يوم أن أصدرت بيانها البائس الهزيل قبل سقوط نظام الإنقاذ، وكتبت لاحقاً بشكل مفصل أنها تتكون من لافتات هلامية، وأنها منبتة الجذور عن الشارع، والدليل على ذلك نراه كل برهة في اللجان التي يتم تشكيلها يوماً بعد يوم من عناصر يربط بها رابط رئيسي وهو العزلة عن الجماهير، ورابط ثانٍ وهو الجهل بالمهمة المكلفين بها، وتتحدث مجالس المدينة عن الفساد كأحد الروابط الأكثر قوة لكننا لا نصدق نصف ما تقول به مجالس المدينة!
لندع قصص الفساد والمحسوبية إلى محاكم العهد المقبل وهو عهد يتشكل اليوم من ثغرات خيبة أمل المواطنين ولا يراه تنابلة السلطان اليوم مثلما عجز التنابلة المتثائبون عن رؤيته في عهد البشير المباد! لنتحدث عن الجهل في حكومة يرأسها حامل دكتوراه ومؤلف كتب في السياسات العامة (ولا علاقة له -كما جربنا- بالإقتصاد) وهو يشارك في إهدار رأس المال البشري لدولة ناشئة فقيرة صنعته في نصف عمرها ما بعد الاستقلال. وبما أن رئيس الوزراء يعرف معنى الرأسمال البشري فإننا نتكرم بالشرح المختصر لتنابلته وقوميسارات لجان التشفي والتطهير، ونقول إنه يشمل جماع المواهب والخبرات والمعارف والصلات والعادات، التي تشكلت لمجموعات من الناس تساهم في بناء المجتمع وتطوره. هذا أمر يحتاج إلى مثابرة لتعلم مكنونه مما لم يتوفر للجنة كما نرى.
بعبارة أخرى، فإن دافع الضرائب قد استثمر في أولئك المفصولين ملايين الدولارات على امتداد عقود من الزمن وإهدار تلك الأموال بهذا الشكل المتعسف بواسطة نشطاء لم ينل أي منهم عشر ما نال المفصولون من التدريب خيانة للمواطن وإهداراً لموارده ورأسماله البشري المنوط به القيام بمهامه بكفاءة وإتقان.
حسناً هذا عهد الشفافية والمسئولية! لقد تم فصل هؤلاء دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم بذات الطريقة التي طرد بها مجذوب الخليفة ولجنته عشرات الآلاف دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم، فلماذا لا يحصل كل واحد منهم على خطاب بالفصل يشتمل على حيثيات القرار الصادر ضده ليعرف أسباب فصله، وبعد ذلك يمكنه التقاضي أو استثمار خسارة الشعب في تدريبه لصالحه الخاص بدلاً عن الصالح الوطني والعمل في المنظمات أو الدول الأجنبية؟ من غير المقبول أن يتم طرد شخص من وظيفته دون توضيح الأسباب له (هذا لعناية القلة من العقلاء في فلك ق ح ت مثل نبيل أديب). نعلم أن نبيلاً والكثير من المحامين وخبراء القانون ليسوا أعضاء في هذه اللجنة العابثة ولكن ينبغي لهم أن يهبوا للدفاع عن سيادة القانون نفسه وحاكميته على سلوك المجتمع كله بما فيه حكام اللحظة الراهنة.
وبعد، فقد أبدى الكثير ممن لم يشملهم قرار الفصل من العاملين في وزارة الخارجية سعادة لا تخفى بالنجاة من سيف اللجنة غير المؤهلة، وهذا أمر معيب لأن السيف الذي ضُرب به زملاؤهم ما يزال في يد المعتدي ونخشى أن يأتي وقت قريب يقولون فيه: أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض!
إن المفصولين وغير المفصولين من وزارة الخارجية بحاجة إلى كلمة موحدة قوية ترفض تهافت الطامحين على وزارتهم باعتبارها مكاناً للتوظيف المجزي والإعاشة المرفهة، وليس باعتبارها دائرة حكومية معنية بأداء مهام محددة.
على لجنة التطهير أن تعيد النظر في قراراتها هذه، أو أن تعلن قوائمها للفصل من الخدمة في الجيش والقوات النظامية والطيران والتعليم وغيرها إذ لا يمكن أن يستأثر الإسلاميون بالتمكين في الخارجية وينسون تلك المؤسسات.
أما إعادة هيكلة وزارة الخارجية لتكون مؤسسة فاعلة وليست هيئة لإعاشة الدبلوماسيين وعائلاتهم ومحطاً لمنافسة المتبطلين على فالوذجها فهذا نتركه لحديث قادم.
محمد عثمان ابراهيم
الصيحة