* ظللتُ طيلة العشرة أيام الماضية التي غبتُ فيها عن الكتابة مجبراً لا بطل أصارع حمى الملاريا التي بذلتُ لها كل شيء فلم ترحل، أو كما قال المتنبئ (بذلت لها المطارف والحشايا ** فعافتها وباتت في عظامي)!
* وكما عانيت من حمى الملاريا التي وجدت فرصتها وفعلت فعلتها في شخص مرهق من الوقوف بالساعات الطويلة في صفوف الخبز والبنزين، والقيادة ساعات طويلة في شوارع الخرطوم المكتظة بالعربات والمسيرات والمليونيات التي لا تنتهي بالإضافة الى سوء التغذية وسوء التروية، فقد عانيت أشد المعاناة وعانى معي كثيرون في العثور على العلاج المستورد المعروف بـ(الكوارتم ) الذي أصدرت وزارة الصحة قراراً في العام الماضي بمنع استيراده او خفض الكمية المستوردة منه باعتبار أن هنالك بديل شبيه له ينتج محلياً، بدون إجراء أي نوع من الدراسة لمقارنة فعالية الدواء المستورد بالدواء المحلي وبعض العوامل الأخرى مثل الآثار الجانبية إلخ، وكان العامل الوحيد الذي وضعته في الاعتبار هو السعر فقط، فكانت النتيجة الحتمية هي الشكوى المستمرة من الأطباء من عدم فعالية الدواء المحلي والاضطرار لإعادة الجرعة مرة أخرى، خاصة مع وجود دلائل واضحة على ظهور حالات مقاومة للعلاج في السودان أسوة بمناطق أخرى في العالم مثل جنوب شرق آسيا، وهو ما يستدعي اجراء دراسات مكثفة والخروج بنتائج علمية قطعية والبحث عن البدائل الفعالة خاصة مع الانتشار الواسع للمرض في السودان وارتفاع عدد ضحاياه من عام لآخر حتى وصلوا الى مئات الآلاف كل عام مع ارتفاع نسبة الوفيات بشكل كبير، ولكن من يدرس ومن يبحث؟ !
* لا أريد أن أحكم بتجربتي الشخصية على فعالية أو عدم فعالية الدواء المحلي الذي لجأت الى استعماله عندما فشلت في الحصول على الدواء المستورد، واضطررت الى إعادة استعماله للحصول على العلاج، فهي ليست الطريقة الصحيحة للحكم على فعالية دواء معين او أي شيء آخر، كما ان هنالك عوامل أخرى كثيرة تتدخل في الموضوع منها الحالة الصحية للمريض وحالته الغذائية ودرجة مناعته والأمراض الأخرى التي يعاني منها ..إلخ، ولكن عندما يشتكي أطباء كثيرون جدا (لا أريد أن أذكر أسماءهم لأنني لم أستأذنهم) من وجود مشكلة في الدواء والاضطرار الى إعادة الجرعة للحصول على النتيجة المطلوبة، فإن ذلك يتطلب التوقف وإجراء دراسة جادة للوصول الى نتيجة قطعية حول الموضوع !
* لفت نظري ان عدد الاقراص في الدواء المستورد تعادل أربعة أضعاف العدد في الدواء المحلي (أربعة وعشرون قرصاً، مقارنة بستة أقراص)، باعتبار أن الجرعة في قرص واحد من الدواء المحلي تساوي نفس الجرعة في الأقراص الأربعة من الدواء المستورد .. وسألتُ نفسي لماذا تلجأ شركة كبرى معروفة ومشهورة على نطاق العالم كله في وضع جرعة في اربعة أقراص بينما يمكنها ان تضع نفس الجرعة في قرص واحد كما تفعل الشركة الأخرى المحلية ( أو الصينية) التي لا يمكن مقارنتها بالشركة العالمية بأي حال من الاحوال، أو لا توجد مقارنة في الأساس، هل هي رغبة في زيادة التكلفة على نفسها او على المريض أم هنالك سبب موضوعي لذلك ؟!
* رفعت سماعة الهاتف واتصلت بعالم جليل في مجال الصيدلة والتصنيع الدوائي كان عميدا لكلية الصيدلة بجامعة الخرطوم، ويشغل الآن عمادة الصيدلة في جامعة خاصة مشهورة، و له أبحاث منشورة في عدد كبير من المجلات والدوريات الطبية العالمية (وسيكون لنا عنه ومعه حديث طويل لاحق)، وتوجهتُ إليه بالسؤال، وكما توقعت فقد كانت الإجابة أن الأمر يتعلق بوجود الدواء في الجسم أطول فترة ممكنة مما يؤدي الى القضاء على الطفيل بشكل فعال، فقلت له ألم تكن الدولة تعرف هذا الأمر عندما أصدرت قرارها بخفض كمية الدواء المستورد لصالح الدواء المحلي، فسألني (أية دولة؟)، فأجبته (السودان)، فقال هازئاً .. (لماذا تسأل إذن ؟)، ثم أضاف، تفاءلنا بالثورة وتعيين الدكتور أكرم التوم وزيراً للصحة، ولكن للأسف لم يتغير شيء، فلقد ظل الذين يضعون السياسات ويصدرون القرارات هم نفس الاشخاص، وظل الحال هو الحال، فقلت لنفسي قبل ان أنهي المكالمة متحسرا وظلت المافيا هي المافيا .. مسكين السودان وثوار السودان..
زهير السراج
الجريدة