بُعيد المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني في أكتوبر 1999م الذي شهد إسقاط الموقعين على (مذكرة العشرة) في انتخابات الترقي لمجلس الشورى، بتوجيه من الأمين العام الراحل الدكتور “حسن الترابي”، كتبتُ مقالاً في صحيفة (ألوان) عنوانه: (الرسالة الأخيرة إلى الدكتور الترابي) ومن بين العناوين الفرعية (احذروا رجل القصر الصامت .. فإنه يملك المفاتيح) ، وكنت أعني “علي عثمان” النائب الأول لرئيس الجمهورية . أثناء عملية (تصميم) الصفحة على الورق ولم تكن صحافتنا قد وصلت وقتها مرحلة التصميم أو الإخراج على جهاز (ماك)، كان زميلنا الأستاذ “النور أحمد النور” موجوداً في المكان ، وكان يكتب بالصحيفة ، غير أنه لم يكن متفرغاً لها ، لانشغاله بمهام سياسية وتنظيمية مختلفة ، فقد كان قريباً من قيادة الحركة الإسلامية خاصة الدكتور “علي الحاج محمد”، قبل أن يفارق العمل التنظيمي بعد (المفاصلة) ليصبح أقرب ميلاً إلى (المعارضة غير الحزبية)، وأكثر انغماساً في العمل (المهني) كمراسل لصحف وقنوات عربية. نظر “النور” إلى الصفحة وقال لي ساخراً :(صاحبك دا – يقصد علي عثمان- ما عندو مفتاح غير مفتاح عربية الخضار .. بوكس “دبل كاب” بتاعت البيت)!! ضحكنا ، ثم ذهب المقال إلى المطبعة، ولم يمض شهران على نشره حتى أطاح “البشير” و”علي عثمان” بالشيخ “الترابي” !
كانت التقارير التي تصل “الترابي” من الأمن الشعبي والمكتب الخاص للحركة الإسلامية تؤكد بأن “البشير” لا يستطيع الانقلاب على الأمانة العامة وأن الجيش في أيدٍ أمينة!!
انخرطتُ تلك الأيام في نقاشات مطولة مع مجموعة من الصحفيين الإسلاميين – ولم أكن عضواً معهم في التنظيم- عن مآلات توتر العلاقة بين (القصر) و(المنشية) ، كان المشهدُ بالنسبة لي واضحاً ، وكنتُ مسانداً في مقالاتي اليومية صف “البشير” – “علي عثمان” لاعتبارات مختلفة ، قلتُ لهم :(الرئيس سينقلب على الشيخ مسنوداً بالجيش) . رد علي أحدهم (يعمل رئيس تحرير الآن) بثقة : (الجيش في يد “عمر عبدالمعروف” وزير الدولة للدفاع)!! وكان “عمر” مدنياً ، لكنه اختير لهذا المنصب العسكري لعلاقته بالمكاتب الخاصة للحركة الإسلامية .
عندما أذاع الفريق “عمر البشير” بيانه الليلي الصادم مساء الرابع من رمضان الموافق 12/12/1999م ، وأعلن حالة الطوارئ في البلاد وتجميد الدستور وحل البرلمان ، أُصيب غالبية الإسلاميين بحالة ذهول و(خُلعة) تشبه حالتهم يوم 12 أبريل 2019م قبل وبعد أن تلا الفريق أول “عوض ابن عوف” بيان الإطاحة بالنظام السابق واعتقال “البشير” وقادة الحكم . ما كان غالبهم يصدِّق أن ما حدث في التاريخين سيحدث!!
دانت السلطةُ للرئيس بعد قرارات رمضان، وانتقل “الترابي” إلى السجن (حبيساً) للمرة الثانية، وظل “البشير” في القصر (رئيساً) لنحو عقدين آخرين.
أصبح “علي عثمان محمد طه” النائب الأول للرئيس هو الحاكم الفعلي في البلاد في الفترة من العام 2000م إلى العام 2005م تاريخ التوقيع على اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) .
ترك الرئيسُ لنائبه الأول الجملَ بما حملَ في كل ما يتعلق بالجهاز التنفيذي ،ولم يشغل نفسه بالتفاصيل، كما أنه كان يريد الاستقواء بـ”علي عثمان” كقيادة تنظيمية، والاحتفاظ بسند الحركة الإسلامية حتى لا تتسرب العضوية بما فيها من كوادر عسكرية وأمنية وموظفي خدمة مدنية في كافة القطاعات المهنية، وتنتقل من دعم الدولة إلى معارضتها تحت راية الشيخ “الترابي” .
في تلك الأيام من العام 2000م ، استقبلتُ مكالمةً هاتفيةً من مدير مكتب النائب الأول للرئيس “إبراهيم الخواض” وكان ضابطاً بجهاز الأمن، ترقى إلى رتبة (لواء) قبل أن يتقاعد قبيل ثورة ديسمبر 2018م . قال لي “الخواض” : (السيد النائب الأول عاوزك تقابله في القصر .. سنحدد لك موعداً ونفيدك) . وبالفعل اتصل مرةً ثانية بعد يومين وذهبتُ إلى القصر لمقابلة نائب الرئيس ، وفكري حائر وبالي مشغول :(تُرى ماذا يريدُ الحاكمُ؟!) .
الهندي عزالدين
المجهر