أحزابنا والرقص مع شيطان الثورة

سأبدأ بنكتة تروى، أن رجلاً وضيء الوجه، نظيف الملابس، مهيب الطلعة جاء لرجل دين وجلس بين يدية بأدب وفاجأه بالقول بأنه قضى ما مضى من حياته كافراً ملحداً، وأن الله قد هداه، ويريد أن يشهر إسلامه على يدي الشيخ ويكتب له صكاً بإسلامه. فرح الشيخ وهنأه، وأحضر دفتره ليكتب له شهادة بدخوله في الدين، فسأل الرجل وهو مكباً على الورقة أمامه: ما اسمك؟. فأجاب الرجل بكلمة واحدة: إبليس!. رفع الشيخ رأسه وكرر السؤال، فأجاب الرجل: نعم أنا إبليس وقد اهتديت إلى الايمان والاسلام. فهب الشيخ واقفاً وصاح بالرجل: أخرج أيها اللعين، وطرده، وهو يشيعه باللعنات… لماذا فعل ذلك؟.

ببساطة لأن وجود إبليس كافراً ملعونا هو الذي يمنح وجود الشيخ شرعيته. وإلا فما هو مبرر مشيخته، إذا لم يكن هناك إبليس يضل الناس، فيلعنونه ليهتدوا؟!.

إذا أسلم إبليس فقد الشيخ وظيفته، وفقد امتيازاتها، بل مبررات وجوده.

وهكذا الحال بين الحكومة ومعارضتها. يتغذى كل منهما بوجود الآخر.

(2)

حينما يقول ياسر عرمان بأن “إخراج الإسلاميين بالباب ودخولنا بالشباك تمكين غير مقبول”، فإنه بذلك يتلاعب بمفاهيم محورية ترفعها الثورة – أي ثورة في الدنيا – كشعارات تعبر عن آليات التغيير.

تماماً كما يتلاعب الإسلامويون بمفهوم “الاقصاء”، بإفراغه من مضمونه الثوري، وتوظيفه على نحو يجهض الثورة ويحقق أهدافهم هم، وأهداف كل قوى وفصائل الثورة المضادة معهم.

فإذا قام المتأسلمون بإقصاء كل الناس ومكنوا موالوهم، فإن القاعدة العقلانية والمنطقية تكون “بإقصاء” المتأسلمين و”تمكين” كل السودانيين غيرهم بالعدل. وبهذذا وحده يتحقق شعار الثورة بـ”العدالة”.

وقد حذرنا في مقال سابق، تحت عنوان “عندما تصبح مبادئ الثورة سلاحاً قاتلاً بيد أعدائها” من أن هذا التلاعب بمبادئ وشعارات الثورة هو واحد من أمضى أسلحة قوى الثورة المضادة في مواجهة التغيير المنشود بتأسيس دولة جديدة. وقد رأينا أن هذا الاستغلال لشعارات ومبادئ الثورة قد تجلى في العديد من المواقف التي تم فيها حرف هذه المبادئ، ليس من أعداء الثورة المعروفون للشعب، بل حتى من بعض فصائل قوى الثورة ذاتها.

قد تستطيع، بشيء من التسامح وافتراض حسن النية ونبل المقصد، أو حتى بافتراض غلبة الغفلة وسوء الفهم والتقدير، أن تجد عذراً لبعض من هؤلاء الذين انطلى عليهم نفاق وحيل وخدع الاسلاميين (ولا تدري لماذا هم إسلاميون بينما بقية الخلق مسلمين؟!)، في تبنيهم الزائف لمبادئ الثورة وشعاراتها، فساروا معهم في الطريق الذي يقود لإجهاض الثورة.

لك أن تظن هذا الظن الحسن. وربما أشاطرك الرأي في نوايا البعض.

ولكني لا أستطيع – استناداً لتجارب سابقة – أن أحسن الظن بنوايا بعض هذه القوى التي سجلت نفسها في كشوفات الثوار، لسرقة الثورة، وتحويل مجاريها لتصب في بحيرة طموحاتها السلطوية التي لا تكتفي ولا تمتلئ.

وقد أجهضت هذه القوى بالفعل ثورتين شعبيتين في أكتوبر 1964، وفي ماريل 1985. وليست هذه بالوقائع التاريخية القديمة لتحتاج إلى مراجع تؤكدها.

إذا استثنينا سرقتها للحدث الأكبر في تاريخنا الحديث: الاستقلال.

وأعني بهذه القوى: الأحزاب السياسية.

(3)

قد تختلف الأحزاب السودانية في لافتاتها الأيديولوجية التي ترفعها، ما بين لافته ليبرالية، ولافتة دينية/ طائفية، ولافتة تقدمية/ يسارية.. الخ، ولكنها في جوهرها، ومن حيث بنيتها حزب واحد!.

ولا أملّ التكرار، كل مرة، القول بأنها ليست أحزاباً بالمعنى الذي يعنيه ذلك في المصطلح السياسي، كمنظمة سياسية مدنية. وهذا أمر لا ينفرد به السودان بين دول العالم الثالث، وإنما هو ماركة سياسية تتشاركها فيه/ معها، منظومة الدول التي تسمى عربية وإسلامية.

وما هو قائم في السودان – وفي سائر الجمهوريات العربية اليوم – من أحزاب اليوم، لا يماثل الحزب في الغرب، ولا يتطابق معه، لا في الدور، ولا في المنشأ، ولا في السلوك والسياسة.

فهي شبيهة بتلك، تماثلها، وتحاكيها في الاسم والتنظيم الشكلي فقط لا غير.

فهي تتشبه بالحداثة والعلمانية ظاهراً وتتماسك بآليات دينية مضموناً، ما وأن نسيج ترابطها الداخلي في لاعقلانيته لا يختلف عن روابط التعصب للمذهب الديني.

وهذا التشبه بالحداثة والمنهجية العلمانية هو الذي يجعل الناس تغفل أن الطائفة أو الزاوية، هي عين الحزب السياسي!.

– فالعلمانيون يعتقدون أن الأحزاب التي تتسمى بالإسلام هي أحزاب دينية حقاً.

– بينما في المقابل، يعتقد المتدينون أن الأحزاب الوطنية والقومية والماركسية هي علمانية حقاً.

وكلاهما، في زعمه هذا، تغيب عنه خصوصية الثقافة العربية الاسلامية وتجذُّر وتواصل التراث لديهما معاً.

فالأحزاب الدينية هي دنيوية، سياسية، بالمعنى العلماني، وتسعى للمشاركة في السلطة السياسية..

والأحزاب العلمانية هي دينية روحاً وسلوكاً وعصبية.. تسعى لتفسح لها مكانة بين الجماهير.

ولهذا تغيب الديمقراطية حين يرفض كل طرف منهما الآخر رفضاً مبدئياً.

وما يوحِّد هذه الأحزاب، هو أنها أقرب إلى البنى الطائفية والقبلية، منها إلى الحزب السياسي (1).

فرئيس الحزب هو كشيخ الطريقة الطائفية أو كشيخ القبيلة، لا يتم انتخابه من القاعدة، ولا تعلو كلمة فوق كلمته، وهو القائد الملهم والزعيم الأوحد. ولا غرابة في ذلك، فهذه الأحزاب بالفعل صورة للبنى الاجتماعية – الطبقية في مجتمعاتها ومشابهة لأنماط الانتاج وعلاقات الانتاج السائدة في بلدانها. وبكلمة واحدة هي تفتقر إلى الديمقراطية داخلها، وبالتالي لا يمكنك أن تتصور لها سلوكاً ديمقراطياً في الفضاء السياسي والاجتماعي العام. فهي أحزاب تعكس العقلية السلطوية/ الأبوية بشكل وقح وفج.

وإذا ما تراءى لك شيء من التماسك داخل هذه الأحزاب، فإن ذلك متأت من قوة سيطرة الموروثات التقليدية بين العامة من جماهيرها، مختلط بعناصر من روابط التحزب الحديث: كالمصلحة والمنفعة وبعض الوظائف بين النخب المتعلمة.

(4)

حسناً. أحزابنا، وهذا هو شأنها: هل تتوافق مبادئ وشعارات وأهداف الثورة، مع مصالحها في السيطرة؟

هل تتسق طموحات الشباب، وحلمهم المشروع في الدولة التي يسعون لإرساء أسسها،– مدنية: حرية، سلام وعدالة – مع طبيعة هذه الأحزاب وأهدافها السلطوية؟.

إنهما يسيران بذات الاتجاه، ولكن على خطين متوازيين، يصلان إلى محطتين مختلفتين كل الاختلاف.

ففي حين تطلب الثورة دولة جديدة بـ”نظام” سياسي واجتماعي بديل.

تهدف الأحزاب إلى المحافظة على الدولة القائمة، مع تعديلات ديكورية على نظامها.

فهذه الأحزاب، وبحكم النشأة والتكوين والبنية لا تستطيع أن تتنفس خارج مستنقع الدولة القائمة منذ ما قبل الاستقلال.

بينما في المقابل هناك أجيال لا تدين للماضي. ولدت من رحم عالم جديد، خارج أسوار الثقافة التقاليدية، ورؤية لمفهوم الحقوق مختلفة تماماً.

ويمكن لأي أحد قرأ أو شاهد أو استمع لنقاشاتهم وجدالاتهم وحواراتهم على منصات التواصل الاجتماعي (ساحتهم الأكثر ازدحاماً)، أن يعرف حقيقة رأيهم في الأحزاب، وموقفهم منها، وكفرهم بها.

فهم – كما يعبرون عن ذلك بوضوح – لا يخشون على ثورتهم من (الكيزان)، ويعتبرونهم صفحة في تاريخنا قد طووها عنوة واقتداراً إلى الأبد.

ولكن خشيتهم الكبرى كانت وستظل من الأحزاب، التي تتخلل صفوفهم، وتبث سمومها لتشق بنيانهم المرصوص، والانحراف بمسار الثورة عكس اتجاه تيارها.

والحق معهم في مخاوفهم هذه.

(5)

فلطالما كانت هذه الأحزاب على الدوام تمثل وجه عملة السلطة الحاكمة الآخر.

فهي لا تختلف عنها لا في بنيتها ولا في آلياتها وأهدافها: السلطة المطلقة من كل قيد قانوني، والبراجماتية المتحللة من كل قيد أخلاقي. وكلاهما يحتاجان بعضهما البعض لصياغة صك شرعيته. تماماً مثلما يحتاج الشيخ لإبليس لشرعنة وجوده.

ومن يراقب عن كثب سلوك الأحزاب اليوم في مواقفها الهلامية/ المتأرجحة من أهداف الثورة يتأكد له ذلك.

ألم يدعو الصادق المهدي إلى إجراء انتخابات مبكرة؟.

ألم يدعو مليشيات حميدتي للانضمام إلى حزبه؟. ثم إلى ضمها للجيش؟!.

ألم يعارض أثناء حكم الانقاذ تسليم البشير لمحكمة الجنايات الدولية، لأنه “جلدنا” الذي لا نرضى أن يجر الشوك فيه؟. ثم دعا بعد الثورة لتسليمه؟

هذه هي لعبة الكراسي بين السلطة، ومعارضتها/ تؤامها ..

هي نشأت وتربت على منطق السلطة .. لا على منطق الثورة، وهي تخشى التغيير الجذري لأنه – في وهمها – يهدد وجودها.

(6)

قيل أن أحد العامة وقف ليصلي في المسجد، صلاة الجماعة، وعندما التفت الإمام خلفه وقد اصطفت صفوفهم، قال لهم: اصطفوا وتراصوا وسدوا الخلل لا يقف الشيطان بينك. فقال الرجل بعفوية: إذا ربنا هداه ودخل المسجد ليصلي لماذا تريد أن تطرده؟!.

نصيحة لوجه الله:

يا قادة الأحزاب، لا تخشوا الثورة وما تتسبب فيه من تغيير جذري في الحياة. فإن في الثورة حياة لكم .. إنها تطهركم وتعيد لأحزابكم شبابها وعافيتها الوطنية!.

يا قادة الأحزاب: أدعموها … وإلا فاتركوها تمضي إلى غاياتها.

هوامش

د. رسلان شرف الدين، مدخل لدراسة الأحزاب العربية، دار الفارابي، بيروت/ لبنان، 2006، ص 13، 14.

عزالدين صغيرون
الراكوبة

Exit mobile version