لعل الاجتماع الصادم بين بنيامين نتنياهو، الغارق في تحقيقاتٍ جنائيةٍ قد تُدخله السجن، والجنرال عبد الفتاح البرهان الذي استخار ربّه قبل أن يقرّ قراره، لم يكن على تلك الدرجة من السوء، قياساً بمسألتين شديدتي السوء: الأولى توقيت اللقاء خلال انعقاد منظمة التعاون الإسلامي في جدة، بل وبعد يوم فقط من قرار المجلس الوزاري لمجلس جامعة الدول العربية، حيث تم هنا وهناك رفض صفقة القرن بالإجماع. والثانية إتحافنا بجملةٍ طويلةٍ من التبريرات السقيمة التي سوّغت بها نخبٌ سودانية هذا اللقاء، الموظف أساساً لتعويم نتنياهو انتخابياً، وتسويق خطة ترامب، الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، وتطبيع العلاقات بين العالم العربي والدولة العبرية.
ومع أن قرارات الجامعة مجرّد حبر على ورق، ولم يتم أخذها على محمل الجد في أي يوم، إلا أن كسرها بكل هذه الفظاظة، والخروج عليها بكل هذه الخفّة والاستهتار، كان ثقيلاً على الضمير الجمعي العربي، كون الفاعل بدا لنا حاكماً مستجدّاً على الصنعة، لم يتلوّث بعد في مستنقع السياسة الآسن. وفوق ذلك، صار البرهان قائداً رمزياً لثورةٍ باسلة، تم اعتبارها موجةً ثانيةً من الربيع العربي، مبشرةً بزمن الحرية والعدل والديمقراطية، الأمر الذي بدت معه فعلة الجنرال ردّة، حتى لا نقول ثورة مضادّة.
وهكذا، بدت المرافعات البائسة عن الفعلة الطائشة أشدّ هوْلاً من مقارفة الواقعة المشينة، وأفظع من ارتكابها في توقيتٍ شديد الوطأة على الوجدان العربي، ناهيك عن ذلك التعلّل الساذج بالمصالح العليا، والضرورات القهرية التي أملت على القيادة السودانية الإقدام، ذات ليلة سوداء، على تشويه صورة بلد اللاءات العربية الثلاث الشهيرة، وحمْله على القفز في الهواء قفزةً واسعة، بزعم أن خلاص البلد العربي الأفريقي الكبير من معضلاته كافة، بما في ذلك شطبه من قائمة الإرهاب، لن يتأتّى إلا بالعبور من البوابة الإسرائيلية، تحت وهم أن الطريق الأقصر إلى قلب واشنطن يمرّ من تل أبيب حصراً.
في السجالات السودانية فور كشف نتنياهو عن لقائه السرّي مع عبد الفتاح البرهان، في عنتيبي الأوغندية، بدا للوهلة الأولى أن هناك فروقا في المواقف السياسية، بين المجلس العسكري الحاكم والقوى المدنية القابضة على مقاليد السلطة التنفيذية، وأن هناك خلافاً، بدرجةٍ ما، بين الطرفيْن الممسكيْن بمخرجات الثورة السودانية، إلا أن التلعثم، في البداية، ثم التبرؤ من المعرفة المسبقة بالفعلة المفاجئة، سرعان ما حل محله قبول “الثوار” بالأمر الواقع، والرضى عن اللقاء المشؤوم. وفيما صام معظم قادة قوى الحرية والتغيير عن الكلام، ولم يتخذ أيٌّ منهم موقفاً احتجاجياً ملموساً، ذهب عروبيون وإسلاميون منهم إلى الترحيب باللقاء، وراحوا يدافعون عنه، ويعوّلون عليه بلا حساب.
أسوأ ما دار في تلك السجالات تحميل العرب عموماً، والفلسطينيين خصوصا، وزر كل ما لحق بالسودان من فقر وخراب وعزلةٍ وتهميش، ناهيك عن الزعم أن العرب مطبّعون في العلن والسر، والادّعاء أن أصحاب القضية التي وقعت آثارُها على رؤوس السودانيين يعانقون إسرائيل في الهواء الطلق، وكأن عمر البشير لم يرتكب كل الأخطاء القاتلة ثلاثة عقود، ووصم السودان بالإرهاب كان نتيجة استضافته ياسر عرفات، مثلاً، وليس أسامة بن لادن، وغير ذلك من ترّهاتٍ حملت هؤلاء على القول: ولماذا نحن وحدنا المحجور عليهم التطبيع؟
دعك من الخروج على الإجماع العربي، فهذه عادة عربية مزمنة، ودعك من قلّة الالتزام بالمقرّرات، والتنصل من الوعود والتعهدات في زمن الهوان، فليس هذا ما نأخذه على النخب السودانية الحاكمة باسم واحدةٍ من أنبل الثورات، وإنما ما يعزّ على المرء، وهو يستمع إلى كل هذا الفيض من التهافت والهرولة نحو عدوٍّ وقف وراء سلخ جنوب السودان، ويصغي إلى هذا الافتراء المتدفق على ألسنة قوى مدنيةٍ راحت تتحدّث باسم الثورة عن الحكمة، وتُزيّن هذه الفعلة السوداء، تُفرط في الرهان، وتبني قصوراً على الرمال.
وأكثر ما يثير الحفيظة، ويدعو إلى خيبة الأمل، أن قوى الحرية والتغيير التي قادت التحول الثوري، بمن فيها القوميون والبعثيون والناصريون والشيوعيون وغيرهم، تبدو بعد اختطاف المجلس العسكري القرار السوداني عنوة، والإقدام من وراء ظهرهم على هذه الخطوة، مجرّد شاهد زور، رأى بأم عينه، وصمت مرغماً، ثم رضي لنفسه أن يكون غلالة، أو قل خرقةً بالية، لمجلس عسكري انقلابي، أعاد إنتاج النظام الفاسد المستبد، واستأنف عادة نقل البندقية من كتفٍ إلى كتفٍ بسهولة مفرطة، وإنْ هذه المرة برعونةٍ شديدةٍ وتهوّرٍ لا سابق له.
العربي الجديد