عصيدة جنت موسيفيني وكسرة حميدتي

اعتذر لي صديقي اليوغندي داؤدي ذات يوم عن موعد كان بيننا ، سبب الاعتذار انه ذاهب إلى مدرسة ابنه لحضور اليوم الوطني للطبخ .
في اليوم التالي وجدت أن الصحف و القنوات المحلية أفردت صفحاتها و شاشاتها للسيدة الأولى ليوغندا (جنت موسيفيني ) التي ترعى هذا اليوم ، و تشارك فيه مشاركة فاعلة من إحدى المدارس الحكومية، بأن تطبخ للتلاميذ واحدة من الأطباق المحلية و تشرح لهم كيفية تجهيزها … و يكون هذا اليوم مخصص للاحتفاء بالطبخ في كل مدارس البلاد بإختلاف الثقافات الغذائية للشعوب في بلدها، يحضره المسئولين و أهالي التلاميذ و أولياء أمورهم للاستدلال بأهميته .

جنت زوجة الرئيس موسيفيني شخصية قوية لها سطوتها في المجتمع اليوغندي ، شغلت العديد من الوزارات التي تعنى ب المرأة و الطفل و التعليم و المجتمع ، شاركت زوجها مشاركة فاعلة في إرساء أسس الدولة الحديثة لبلادها ، و قد كانت رفيقته أيام النضال قبل أن يعتلي زوجها سدة الحكم ، تركز أنشطتها في دعم المجتمعات المحلية و طرح البرامج و المشروعات التي تساهم في تطويرها ، تعنى بالمرأة و تعمل جاهدة في توفير سبل الحياة الكريمة لها .

مشاركتها في يوم الطبخ القومي يأتي من ضمن اهتماماتها بثقافات مجتمعها و بسط الأمن الغذائي لبلادها … فاليوغنديون يعلون من شأن ثقافتهم الغذائية و يعتزون بها أيما اعتزاز ولا يتنازلون عنها بسهولة لصالح أي ثقافة غذائية أخرى .
الطبق الأساسي في المائدة اليوغندية هي العصيدة بكل انواعها ، لكن عصيدة الموز تأتي في المرتبة الاولى و يطلقون عليها اسم (ماتوكي) (matoki ). و تأتي بعدها عصيدة الذرة الشامية و يسمونها (بوشو) (posho ) ، و عصيدة أخرى يصنعونها من حبوب صغيرة الحجم تشبه الدخن بل أصغر حجما يسمونها (كالو) يعتمد عليها النوبيين في الشمال و الشمال الغربي للبلاد في غذائهم . ثم عصيدة الكسافا و هي عصيدة يصنعونها من نبات يشبه البافرا، إلا أنه أكبر حجما …

و الصوص الذي يشتركون فيه جميعهم عبارة عن بقوليات يطلقون عليها اسم (جينجاروا) و هي حبوب كبيرة الحجم تشبه الفاصوليا تماما بالون الأحمر ، و يطبخونها كما نطبخ الفول و يضيفون اليها الطماطم و البصل … أيضا يطبخون الفول السوداني و السمك بنوعيه المجفف و الطازج ، و اللحوم …
تحتوي مائدتهم على الخضروات بصورة أساسية فلا يأكلون اللحوم كثيرا ، و بالرغم من توفرها إلا أن الكثيرين لا يأكل إلا مرتان أو ثلاث مرات في الشهر ، لكنهم يعتمدون على الخضار و يأكلونه بكميات كبيرة … مناخهم مساعد على الزراعة فكل شئ عندهم ينتج مرتان في السنة مما وفر لهم كمية كبيرة من الخضروات و الفواكه يصدرونها إلى الدول العربية .

أنواع الأطباق التي ذكرتها عاليه هي الوجبات التي يأكلها الجميع و يتشاركونها ، من رئيس الجمهورية مرورا بالوزارء و الأغنياء ، و الموظفين في الدولة إلى أفقر شخص في البوادي و الأرياف . نفس عصيدة الموز تجدها في القصر الجمهوري و في داخليات المدارس، و في الشيراتون و الفنادق خمسة نجوم ، وعند الرعاة الأمبرورو في أقصى الغرب …
الوجبات الحديثة و المطاعم الفخمة التي تقدم الأطباق العالمية المختلفة موجودة و متوفرة ، لكن يبقى الخيار الأول عند اليوغندي هي الأطباق المحلية التي لا يستطيع أن يغيب عنها يومان أو أكثر .
المائدة اليوغندية ليس فيها شئ مستورد سوى الملح يأتيهم من كينيا، بخلاف ذلك أي شخص خارج العاصمة لديه مزرعة بستانية صغيرة خلف بيته يزرع فيها كفايه من الموز و الخضار الذي يكفيه لغذاءه و يبيع الفائض في الأسواق . لذا من الصعب أن يعاني هذا الشعب من الجوع ، لأن الأكل متوفر عندهم و كل شخص يكتفي بما عنده ، فتجد بعضهم يشوي الموز و يأكله مع الشاي كوجهة كاملة له و لأطفاله ، و كذلك البعض يسلق البامبي أو البطاطس أو القرع و يأكلونه كوجبة كاملة مع الشاي … طعامهم في أرضهم و ضراعهم ، لا يقفون في صفوف في انتظار الخبز المجاني ، بل الحكومة تفرض ضرائب باهظة على كل مواد غذائية تستورد من الخارج ، كي يتم حماية المنتجات و الصناعات المحلية ( الكتشب المستورد يباع بما يعادل مائتي جنيه سوداني و المحلي سعره لا يتجاوز سعر العشرين جنيها و قس على ذلك ) ،يمكن للبعض أن يشتري وجبة كاملة من العصيدة و الجنجارو بما يعادل ثلاثون جنيها عندنا ، لكنها في نفس الوقت نفس المبلغ ثمنا لرغيفتين فقط من الخبز ، لأن قيمة الرغيفة تعادل 15 جنيها سودانيا و هو سعرها الرسمي بدون دعم ، بل عليها ضرائب باعتبار دقيق القمح مستورد ، و كل طعام مستورد تفرض عليه ضرائب عالية .

اليوم الوطني للطبخ كان عيدا قوميا يحتفون به في كل أنحاء البلاد بالإنتاج، و يعلمون أبناءهم و بناتهم الطبخ و كيفية اعداد الأطباق المحلية ، نادرا جدا ما تجد يوغندي لا يعرف كيف يطبخ مختلف أنواع الأطباق المحلية ، فهم شعب يعتمد على نفسه في كل شئ ، فالطفل الذي لا يتجاوز عمره سبعة أو عشرة سنوات يكون مسؤولا عن نفسه في البيت فيقوم بغسل ملابسه و طبخ طعامه و ترتيب و تنظيف غرفته ، لأن والدته و إخوانه و أخواته الأكبر يكونون في العمل ، فالجميع يعمل ولا زمن أو مساحة للكسل و الاتكال على الآخرين أو الحكومة ، لأنك أن لم تعمل و تنتج فلا أحد يتصدق عليك بطعام مجاني ، حتى والديك غير ملزمين بك أن بلغت سن الرشد أو إن تركت الدراسة في سن مبكرة لذا يجب أن تعتمد على نفسك لتنتج …

مع التطور و انشغال الناس تحول يوم الطبخ إلى المدارس ، لتستمر رمزيته . و تحتفل به السيدة الأولى كل عام بطريقة و في مدرسة مختلفة ، بالرغم من التطور الذي حدث في البلاد و في ثقافاتها إلا ان الاحتفال به لم يندثر إنما اتخذ صور و فعاليات حديثة تواكب العصر الحديث ، لكن نفس الموز و نفس البافرا و الذرة الشامية ، و نفس الجنجارو.

بالأمس كان الجميع يسخر من الدعوة التي أطلقها حميدتي بإنشاء مخابز كبيرة لصناعة الكسرة … فبدلا عن السخرية من الفكرة كان الأفضل دراستها و تطويرها لتساهم في توفير ملايين الدولارات التي تنفقها الدولة في دعم الخبز المعدوم الذي يحصل عليه المواطن بكل إذلال و امتهان للكرامة … أي إذلال و مهانة أكثر من أن يقف شخص في صف لأكثر من ثلاثة ساعات كي يحصل على خبز شبه مجان و يتظاهر في الشوارع و يحرق اللساتك لأن الحكومة عجزت أن توفره له …
يجب أن يلتقط المثقفين وذوي الشأن فكرة حميدتي في صناعة الكسرة، و مناقشتها و تطويرها لجعلها قابلة للتنفيذ توفر لنا الملايين ، فألسوداني لم يعرف الطعام المجاني إلا في عهد الإنقاذ و قد كان على حساب تنمية و تطور البلاد ، فمعظم السودانيين كانو يزرعون ما يطعمون، لكن الخبز المجاني جعلهم يتكاسلون عن الزراعة بسبب عدم جدواها الاقتصادية مقارنة بالخبر المدعوم ، لكن يجب أن نعود إلى الكسرة و العصيدة و القراصنة التي نزرعها في أراضينا و لا نستوردها بالدم أو الدولار ، و نحفظ بلادنا من التدخلات الإقليمية بسبب استجداء الخبز ….
لدينا عشرات الكليات التي تعنى بالتغذية و آلاف المهندسين و العلماء الذين يستطيعون أن يطوروا ثقافتنا الغذائية وفق معطيات ارثنا، بأن يصنعوا افران قليلة التكاليف و سهلة الاستخدام لصناعة الكسرة و القراصة و العصيدة من منتجاتنا التي نزرعها من الذرة و القمح و الدخن . بخلاف ذلك سنظل نسخر من حميدتي و من كل شخص يطرح أفكار خلاقة لمعالجة مشاكلنا العويصة، و اكبر مشكلة تواجهنا اليوم هي تغيير سلوكنا الذي يقعد بنا و يهدد مستقبلنا …..

سالم الامين بشير فبراير 2020

Exit mobile version