بعد أن استوفي المجاهد عثمان دقنة كل مشروعه النضالي وبعد أن دانت هذه الأرض الطيبة للمستعمر البغيض تسلل الثائر صوب الشرق البعيد بعد كرري، وعينه فياضة بالدموع وقلبه وجسده مثخن بالجراح، ومرقعته مغسولة بالدماء. لاذ بكهف عسير بجبال البحر الأحمر الشامخة وكان صديقه (المخلص!) هو الوحيد الذي يعرف سر الرجل و كان يأتيه خفية بالطعام والشراب، وقد علم قلم المخابرات البريطانية برحلة المجاهد الخطير، وبخبثها ومكرها المعهود اصطادت الصديق وغمرته كعادتها مع كل ضعيف بالرغبة والرهبة. وذات ظهيرة سيئة السمعة التقط المحارب العجوز أصوات أرجل تقترب من فتحة الكهف فاستعد بسيفه، ولكن الغلبة والعددية هزمت الشجاعة فتم اقتياد الأدروب النبيل صوب مصيره المجهول. وقبل ان يغادر إلتفت صوب صديقه القديم بنظرة احتقار حارقة وقال جملته التي شاعت وسط القرى الجريحة: (أنا انقبضت يا فلان علك ما بعتني رخيص)..
لقد ظل الشعب السوداني مثل عثمان ستين عاماً يقف على خندق المقاومة يناصر ثوار الجزائر، ويعاضد جيش القنال، ويمسح بمواقفه السياسية والنضالية أوضار التقهقر عن وجه كل عواصم الثوار والمناضلين، ليس لأنه ثري أو مكتفي، ولكن هذا الشعب جُبِّل على مناصرة كل ضعفاء قوى الخير والسلام ولم يبق للسودان والسودانيين إلا هذا الشرف، حتى عندما وقف هذا الشعب الراكز وهذا الجيش الشامخ ضد الامبريالية الجديدة كان حظه ابداً السمعة الطيبة والصيت المبارك.
حتى قال في حقه الشهيد احمد ياسين لم يبق في هذا الزمان إلا أمريكا و السودان ..
وستظل الخرطوم كما كانت نصيرة لعرابي وعبد القادر الجزائري ولوممبا وكنياتا وبن بلة والقسام وإليندي شيلي ومانديلا وجميلة واخوات جميلة ..
ستظل الخرطوم عاصمة اللاءات الثلاثة رغم أنف الانبطاح والإرتزاق والخيانة ستظل مثل كل العفيفات حرة تموت ولا تأكل بثدييها.
لقد هزتنا جداً هذه المصافحة المشؤومة ما بين الخرطوم المغلوبة على أمرها وتل أبيب الملطخة الأيدي بدماء الشرفاء، فزعيم الكيان العدواني كان يبحث عن بطاقة انتخابية لدى المجتمع الاسرائيلي الذي نفر منه لدمويته وفساده، وكذلك ترامب المهزوز المهزوم والانتخابات القاسية على الطريق.. عدنا بخُفي حُنين مثلما عادت عمان الأردن وقاهرة المعز وعادوا هم بكل الأسلاب والغنائم والانتصارات المعنوية والمناصرة المجانية لصفقة القرن …
وتبقى الرسالة الفياضة بالصبر والمبدئية هاتفة في قلب كل العواصم السجينة.. نحن انقبضنا.. علك ما بعتنا رخيص!!
حسين خوجلي