سد النهضة بلا حلول حاسمة: عجز مصري أمام التعنت الإثيوبي

تأتي زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى مشروع سد النهضة، أمس السبت، إلى جانب البيان الصادر عن وزارة الخارجية الإثيوبية، لتؤكد إصرار أديس أبابا على اعتماد سلوك تصعيدي في مواجهة المحاولات المصرية المستميتة للخروج من المفاوضات باتفاق ما، مع استمرار استبعاد الخيارات العسكرية والاستخباراتية، واكتفاء النظام المصري بالتلويح الخجول بها. وكان لافتاً موعد زيارة آبي أحمد إلى السد بعد ساعات فقط من انتهاء جولة التفاوض الثلاثية بين مصر وإثيوبيا والسودان في واشنطن بفشل جديد لمصر ضمناً، ثم اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأحمد لمحاولة حلحلة الموقف الإثيوبي المتشدد.

وبعد 4 أيام من المفاوضات غير الموفقة في واشنطن، بات واضحاً أن ترامب هو الطرف الأكثر تمسّكاً بإحراز تقدم عاجل في هذا الملف، حتى ولو كان اتفاقاً أجوف بلا مضمون، في محاولة لتحسين صورته الدولية والترويج لإدارته كـ”وسيط للسلام” ومنع الحروب. وهي الإشارة التي اعتاد في خطاباته الأخيرة الحديث بها عن نفسه، وآخرها عندما ادّعى أنه يستحق جائزة نوبل للسلام أكثر من نظيره الإثيوبي.

البيان الأميركي، الذي أقرّه وزراء الخارجية والري في الدول الثلاث، عاد بالمفاوضات إلى نقطة الصفر، إذ كشف عن اتفاق الأطراف على “جدول يتضمن خطة ملء سد النهضة على مراحل، والآلية التي تتضمن الإجراءات ذات الصلة بالتعامل مع حالات الجفاف والجفاف الممتد والسنوات الشحيحة أثناء الملء وأثناء التشغيل”. لكنه أكد أن هذا الاتفاق ما يزال رهن التوقيع النهائي على الاتفاق الشامل، وأن هذا الأمر مقرر في نهاية فبراير/ شباط الحالي. اللافت أن البيان الصادر من وزارة الخارجية المصرية تغاضى عن هذه النقطة المهمة، التي تؤكد عدم التزام السودان وإثيوبيا بما تم التوافق عليه لحين التوقيع النهائي، لمحاولة إشعار الرأي العام المصري بتحقيق تقدم لم ينجز على أرض الواقع.

رامب الطرف الأكثر تمسّكاً بإحراز تقدم في المفاوضات

والنقطة الثانية التي خالف فيها البيان المصري البيان الأميركي الذي أقرته جميع الأطراف، هي إظهار أن مصر وقعت بالفعل، من طرف واحد، على الاتفاق المبدئي على تلك النقاط الثلاث. وهذا ما برره وزير الخارجية سامح شكري في مداخلة هاتفية مساء أول من أمس بأنه “دليل على سعي المصريين للحل وليس تعقيد المشكلة”، لكن البيان الأميركي تجاهل التوقيع المصري.

وكشفت مصادر دبلوماسية مصرية لـ”العربي الجديد” أن إصرار ترامب ووزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين على الخروج بوثيقة “إيجابية” بشأن المفاوضات هو الذي أنقذ الجولة وضمن إحياء المسار التفاوضي بالكامل لنهاية الشهر الحالي، وأنه لو كان ترامب ومنوتشين لم يبذلا جهداً كبيراً في سبيل ذلك لما كانت وفود الدول الثلاث قد بقيت في واشنطن لحظة واحدة بعد نهاية اليوم الثاني الذي شهد “خلافاً شديداً بين مصر وإثيوبيا”.

وأضافت المصادر أن “إثيوبيا تتمسّك بمنهج الفوز الكامل أو الهزيمة الكاملة”، مضيفاً أن “أديس أبابا تريد تحويلها إلى مباراة سياسية، لا تحتمل التعادل، وأنها ترفض أي صيغة ملزمة خلال الاتفاق، بشأن إقرار آلية للتعويض المائي والكهربائي عند حدوث أي ضرر خلال أي من مراحل الملء أو التشغيل، خاصة في فترات الجفاف”.

ووفقاً للمصادر الدبلوماسية والفنية الحكومية المصرية، فإن السبب الأول للفشل هو استمرار تمسك إثيوبيا بوضع جدول زمني محدود جداً لا يزيد على 7 سنوات لملء السد بشكل كامل ومستديم، لإنتاج أكبر قدر من الكهرباء والحفاظ على وتيرة الإنتاج في الفترة بين صيف 2021 وخريف 2026 على أقل تقدير.

والسبب الثاني تمسك إثيوبيا بضرورة إبقاء منسوب المياه في بحيرة سد النهضة أعلى من 595 متراً فوق سطح البحر، لتستمر قدرته على إنتاج الكهرباء، وهو أمر رفضته مصر لأنه غير عادل إذا انخفض مقياس المياه في بحيرة ناصر عن 165 أو 170 متراً. وهو الأمر الذي حاولت المناقشات الفنية السابقة في الخرطوم التوصل إلى حل بشأنه، لتطبيق البند الرابع من الاتفاق التمهيدي الذي أعلن في واشنطن الشهر الماضي، والذي ينص على ملء البحيرة بعد إتمام الملء الأول والوصول إلى المنسوب المطلوب لتوليد المياه على مراحل تبعاً لظروف هيدرولوجيا (علم المياه) النيل الأزرق ومستوى بحيرة السد، وذلك للحفاظ على وتيرة وصول المياه للسودان ومصر، من دون تحديد المنسوب المقبول في البحيرة مستقبلاً، أو حتى المنسوب الذي يجب الحفاظ عليه في الخزانات الأخرى.

أما السبب الثالث فهو استمرار الخلاف حول تحديد الرقم الذي إذا انخفضت عنه كمية المياه المتدفقة من السد، ينبغي إعلان حالة الجفاف واتخاذ التدابير الاستثنائية، لأن مصر تطالب بتمرير 40 مليار متر مكعّب أثناء فترات الجفاف، وبالتالي اتخاذ التدابير الاستثنائية بوقف الملء إذا انخفض المنسوب عن هذا الحد، في حين تعرض إثيوبيا اتخاذ التدابير عند حد 35 مليار متر مكعب وتمرير هذه الكمية في فترات الجفاف.

والسبب الرابع الذي أدى إلى ركود المفاوضات هو ما ظهر جلياً من تقارب بين إثيوبيا والسودان، فغير تخلف الطرفين عن التوقيع على الاتفاق المبدئي بشأن القضايا الفنية الثلاث المهمة السابق ذكرها في البيان الموحد، ظهر عدم اكتراث الجانب السوداني لبعض المخاوف الحساسة والحيوية للمصريين، خصوصاً في ظل اتفاق التعاون الكهربائي بين سد النهضة وشبكة الكهرباء السودانية، مما يعني استفادة الخرطوم من الاتفاق الذي أُبرم بضرورة سرعة الملء الأول للخزان الرئيسي ابتداء من يوليو/ تموز المقبل، بغية البدء في توليد الكهرباء تجريبياً في ربيع العام المقبل، وفعلياً في صيف ذلك العام، وهو ما سبق أن حذرت منه مصادر بوزارة الري المصرية عبر “العربي الجديد” الشهر الماضي.

وسبق للسودان أن قدّم مقترحاً بشأن المعيار الرقمي لحالة الجفاف برقم وسطي بين المقترحين المصري والإثيوبي، على أن يتم قياسه على أساس حصيلة المياه المتدفقة خلال الأشهر التالية للفيضان مباشرة، وهو أمر لا يرضي الجانب المصري، الذي يرغب في تحديد مؤشرات الجفاف بصورة مستديمة طوال أشهر الشتاء والربيع. لكن أديس أبابا والخرطوم تعتبران أن المقترح المصري ليس عملياً، ويفترض وجود لجنة دائمة للقياس، وهو أمر تريان أنه يخرج عن نطاق الاتفاق على الإدارة الإثيوبية الخالصة للسد.

أما السبب الخامس لفشل المفاوضات فهو عدم الاتفاق على أي بند يخص آلية التنسيق وآلية فض التنازع، فأديس أبابا ترى أن سلطتها على السد سيادية ومطلقة، في حين ترى مصر وتقترح الولايات المتحدة وتوافق السودان على أن تضم مسارات عدة، بتخصيص اجتماعين دوريين سنوياً بين وزراء الخارجية والمياه بكل من الدول الثلاث تقدم فيها أديس أبابا خطة الملء الخاصة بها، وتعرض فيها مصر مخاوفها ومحاذيرها المختلفة. غير أن إثيوبيا ترغب في إبعاد وزراء الخارجية عن النقاشات الفنية، وهناك مقترحات أخرى بأن يتم تشكيل لجنة فنية خالصة من الدول الثلاث لمتابعة حالة النيل ومدى التزام كل طرف بتعهداته. كذلك توجد خلافات أخرى حول اللجوء إلى دول أو مكاتب استشارية لفض النزاعات، إذ ترغب مصر في استمرار الاعتماد على البنك الدولي والولايات المتحدة في هذا المجال، بينما تعرض إثيوبيا إدخال طرف أفريقي، وهو ما لا ترحب به مصر.

وحملت جولة التفاوض في واشنطن، التي كان من المقرر أن تكون حاسمة، دلالة أخرى على عجز المفاوض المصري على فرض أجندته، بالعودة مرة أخرى إلى مراحل ابتدائية ومبكرة للغاية من أسس التفاوض، كتجدد الحاجة لإجراء دراسات فنية واجتماعية عن الآثار السلبية للسد. وهو الملف الذي سبق أن رفضت إثيوبيا التعاطي معه بعدما أثبتت التقارير الفنية الأوروبية المختلفة جسامة الأضرار التي ستتكبّدها مصر، وأقلها خروج ملايين الأفدنة من خطة الزراعة السنوية إذا لم يتم توفير مصدر مستدام للمياه الصالحة للري.

زار آبي أحمد سدّ النهضة لتكريس المطالب الإثيوبية

وبحسب مصدر رسمي مصري تحدث لـ”العربي الجديد”، فإن الاجتماعات الأخيرة لم تحرز أي تقدم في النقاط الخلافيّة والجوهرية المتعلّقة بتباعُد وجهتي نظر القاهرة وأديس أبابا في ما يتعلّق بملء سد النهضة وتشغيله. وأكد المصدر أنه على الرغم من البيان الصادر عن الخارجية المصرية الذي يشير إلى توافُق عام بشأن نقاط ثلاث متعلقة بمصطلحات الجفاف والجفاف الممتد، فإن الخلاف لا يزال قائماً حول أمور فنية جوهرية تتعلق بالتدفق الطبيعي للنهر، وكميات المياه المنصرفة خلال المراحل المتتالية للملء والتشغيل الطويل المدى.

وأوضح المصدر أن الجلسات الأخيرة شهدت خلافاً واضحاً حول المرحلة الأولية للملء التي تمّت الإشارة إليها في اجتماعات منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي التي استقبلتها واشنطن، لافتاً إلى أن الوفد الفني المصري تمسك باعتبار المرحلة التي تلي الوصول إلى منسوب 595 متراً من المياه أمام السد، ضمن مرحلة التشغيل الرسمي بما يستتبعه من التوافق بشأن قواعد تصريف الإيراد السنوي للنيل الأزرق، في حين تتمسّك أديس أبابا باعتبارها ضمن مراحل الملء.

من جهته قال وزير الري والموارد المائية المصري السابق محمد نصر علام إنّه بدلاً من التوصل إلى اتفاق نهائي تم التوصل إلى اتفاق جزئي حول سياسة ملء السد والتي تمثل ضرورة لإثيوبيا للبدء في تخزين المياه مع الفيضان المقبل بعد 6 أشهر، مضيفاً أنه “أما بالنسبة لتشغيل السد فتم الاتفاق على قواعده في الجفاف ولم يتم التوصل إلى اتفاق للتشغيل تحت الظروف العادية”.

وشدّد علام على أن “التشغيل هو القضية الأهم لمصر لتجنب سيطرة إثيوبيا ومحاولة الهيمنة على النيل الأزرق كقضية سيادة وللتحكم في دولتي المصب، وكذلك لم يتم الاتفاق حول آليتي المراقبة وفض المنازعات”. وكانت الأزمة قد اندلعت بعد جولة التفاوض الفني الرابعة في أديس أبابا، الشهر الماضي، عندما رفضت إثيوبيا المقترح المصري الذي يتمسك بتدفق 40 مليار متر مكعب من مياه النيل الأزرق سنوياً، وهو متوسط إيراد النهر في أثناء فترات الجفاف والجفاف الممتد، استدلالاً بما حدث في الفترة بين عامي 1979 و1987.

وسبق أن قال مصدر إثيوبي تابع لـ”جبهة تحرير تغراي”، أحد مكونات التحالف الحاكم الحالي والتي تجمعها علاقة متوترة سياسياً برئيس الوزراء أبي أحمد، في تصريحات لـ”العربي الجديد” بداية الشهر الماضي، إن مسؤولين حكوميين في وزارة الطاقة ومشروع سد النهضة أبلغوا قيادات الجبهة بأن توليد الطاقة الكهربائية من السدّ سيبدأ بصورة جزئية في يوليو/ تموز أو أغسطس/ آب 2021. وعليه، عقد وزير الري الإثيوبي سيليشي بيكيلي الشهر الماضي اجتماعات عدة مع المقاولين الأجانب العاملين بمشروع السد، للتأكيد على المضي قدماً في تنفيذ خطة البناء والتشغيل بعد الانتهاء فعلياً من مشروع السد المساعد (سد السرج)، وتمهيد العمل للبدء في الملء الأول في يوليو/ تموز المقبل مع بداية الفيضان.

في هذه الأثناء، أكدت وزارة الخارجية الإثيوبية أن الحكومة والشعب في إثيوبيا مصممان على استكمال وتشغيل بناء السد. وجاء في بيان لها أن نطاق المفاوضات يقتصر على ملء وتشغيل السد، وحكومة إثيوبيا ملتزمة بالحفاظ على حقوق الشعب الإثيوبي في استخدام مياه النيل لمصلحة الأجيال الحالية والمستقبلية. وأوضحت أن البلدان الثلاثة توصلت إلى فهم عام بشأن القواعد والمبادئ التوجيهية بشأن تدابير التخفيف من الجفاف، والجفاف الطويل، والفترات الطويلة من سنوات الجفاف. ولفتت إلى أنه سيتمّ حل القضايا المعلقة في المفاوضات اللاحقة، وسيتم إعداد قواعد ومبادئ توجيهية مفصلة بشأن الملء والتشغيل.

العربي الجديد

Exit mobile version