شريط نادر من خزانة مفيد فوزي لحوار مع «السندريلا» سعاد حسني: أرى الدنيا «بوداني»

ذات صيف فات شب حريق محدود في مكتبى بالبيت والتهمت النار بعض الكتب والأوراق وبعض الشرائط المسجلة. ومرت السنون، وعندما كنت أراجع أوراقى عثرت على شريط وكأنه اختبأ من الحريق وكُتبت له النجاة! حين أزلت الغبار المتراكم عليه لمع اسم سعاد حسنى، وتذكرت أننا تحاورنا ذات ليلة وكانت في عز مجدها ونجمة من الصف الأول. وأملك أن أقول إنها نضجت فناً وفهماً. حين سمعت الحوار وجدنا أن أفضل وقت للنشر في عيد ميلادها الموافق ٢٦ يناير، ويشاء القدر ألا تقرأه سعاد حسنى!

سألت سعاد حسنى: هل لكِ مراحل فنية من الممكن أن نتحاور حولها؟

قالت: لى أدوار خفيفة مع حسن يوسف وأظن أنها مرحلة السندريلا، ولى أدوار مهمة في مرحلة نضجى حين كنت أقرأ النص باهتمام وعندى جرأة أن أناقش المخرج أو كاتب السيناريو.

قاطعتها: جرأة؟

قالت: في مطلع حياتى الفنية كنت أنفذ المطلوب منى، وعندما وصلت إلى مرحلة «الكرنك» و«على من نطلق الرصاص؟» أصبحت عندى القدرة أن «أستفسر» و«أنكش» لأستوعب الشخصية.

سألت: هل كانت أسئلتك مقبولة؟

قالت: طبعاً، لأنها كانت في صميم الموضوع، كنت عايزة أفهم أسباب سلوك الشخصيات، علشان أكون واعية بأعماق كل شخصية أقوم بتمثيلها، علشان من الآخر الناس تصدقنى.

قلت: هذا تم في مرحلة النضج؟

ردت: بلاش حكاية المراحل دى، أي فيلم المهم إزاى بيتكتب وإزاى بيتنفذ وإزاى بيتقدم، لكن أنا بالقطع من خمس سنين أو عشر سنين كنت أختلف في الفهم حتى في الحياة. أنا أستوعب بقدر معين ما حولى من أشياء ولا أدعى أنى فاهمة كل حاجة، يعنى معنديش «النظرة الكلية» اللى سمعتها من إحسان عبدالقدوس. فإذا كان حصل تطور في أدائى كممثلة فده يرجع إلى إن الواحد بيفهم أكتر اللى بيشوفه ويستوعبه أكتر، وبالتالى بيعبر عنه بشكل أعمق أو بشكل أدق. فإذا كانت حاجة بتفوتنى وأنا صغيرة فممكن دلوقتى ماتفوتنيش!

قلت لسعاد حسنى: لو عملتِ «الثلاثة يحبونها» مثلاً، هل تمثليها بشكل أنضج؟

ردت بشكل قاطع: أولاً ماعملهاش، لأن الموضوع ماكنش مدروس كفاية، يعنى ما عولجشى بشكل ناضج.

سألتها: هل تختارين موضوعاتك؟

قالت: لست متكالبة على الشغل ومش ممكن أعمل زى بعض زميلاتى أعمل عملين في وقت واحد. أنا شخصية واحدة مش شخصيتين. هذا انقسام مش فاهمة بيتعمل إزاى. خد بالك إن الشخصية اللى بامثلها باكون «ممتلئة» بها وبتحتوينى تماماً، يعنى مش احتواء كامل لكن بافكر فيها طول الوقت، ما أقدرش أقولك إنى باتشنج لكن هو انسياب طبيعى. لكن من المؤكد أن العقل الباطن بيكون شغال في تحضيرها.

■ ■ ■

قلت لسعاد حسنى: هل أنتِ قارئة صحف. أقصد من السؤال هل بتشحنى بطارياتك؟

سعاد حسنى و مع عبدالمنعم مدبولى و جميل راتب فى «حب فى الزنزانة»

ردت ببراءة: مش فاهمة؟!

قلت: لما تيجى تعملى على سبيل المثال شخصية «على من نطلق الرصاص؟»، فهذه شخصية سياسية، وأريد أن أفهم هل بقراءة الصحف بتشحنى بطارياتك، يعنى ما مدى إلمامك بنوعية الفيلم اجتماعى أو سياسى؟

قالت: بالنسبة للصحف، لى فترات أقرأ جورنال من أوله لآخره، وأحياناً أزهق، وأمسك كتاب ويمكن ما أمسكش حاجة خالص. طبعاً تعلم الحالات النفسية اللى بيمر بها الفنان. الحماس والفتور والملل! والفيلم السياسى أو الاجتماعى عندى واحد وحتى العاطفى. كل له خصائصه وملامحه. على فكرة أنا باتعلم من الحياة. أنا باسمع أكتر ما أتكلم. ولما أسمع باعرف وجهات نظر كتيرة وآراء متضاربة وأشكال مختلفة، مرة صلاح جاهين قال لى: «اللى بيتكلم كتير مايسمعش ومايفهمش الحياة»، أنا استفدت من رأى صلاح جاهين.. تجدنى ساكتة مليش وجود بارفض حاجات وأتحمس لحاجات وأصدق أشياء وما أصدقش أشياء. دى بأه البطارية اللى بتتشحن. مجرد أقعد وحدى في البلكونة ست عادية مش نجمة ولا حاجة وأراقب الحياة، أفهم!

قاطعتها: بتراقبى مجتمع السطوح؟!

قالت: ده عالم تانى. فيه راجل غلبان، فيه المريض المكسور، فيه الست بتنشر غسيل، فيه البواب بيتشمس، أشوف مساحات الحرمان دى. أحمِد الله، ولما أشوف الأنماط دى مئات الأشياء بتمر في ذهنى.

قلت معلقاً على تأملاتها: صمتك فيه ثرثرة!

قالت: ثرثرة بتهلكنى!

قلت: هل لهذا السبب أنتِ صموتة؟!

قالت: مش يمكن بادخر صمتى للبلاتوه؟

قلت: كلمينى عن لحظات صمتك؟

قالت: مخى منشغل بمراقبة تصرفات الناس وكلامهم، وممكن تسأل طبيب نفسى عن سبب الصمت.

قلت: أنت رغم نجوميتك الكاسحة، لا تجيدين التعبير عن نفسك، هل يغضبك ما قلت؟

قالت: أبداً لا يغضبنى، أنا ملعبى السينما!

قلت: كأن الشاشة هي موعدك، عمرك، لهفتك، عشقك.

الفنانة سعاد حسني

ردت بسرعة: بالضبط، وفيما عدا ذلك أنا في إجازة!!

قالت: لازم أعترف لك بإن عدم القدرة على التعبير عن نفسى يؤلمنى جداً، لأن الحياة الاجتماعية والحياة عموماً تتطلب تسويق قدراتك، وأنا- اجتماعياً- لى دور، مش مهم أتكلم عنه لأنه حاضر في عيون الناس وعلى الشاشات.

■ ■ ■

سألت سعاد حسنى: هل في حالتك تجور مساحة الكلام على مساحة الفن؟

قالت: على فكرة أنا في الاستديو مشغولة بالشخصية التي أجسدها ومعى «مساعدة ملابس» دربتها على الصمت، لا أسمح بالكلام في قضايا حياتية وأنا في الاستديو. ويذهلنى هؤلاء الذين ينشغلون بالحياة ويدخلون البلاتوه ويندمجون. والله إنها قدرة!

قلت: أنت مُخلصة للبلاتوه؟

ردت: هو واقع مش إخلاص، ولابد أن أهيئ نفسى للمشهد وإلا هربت منى الملامح النفسية للشخصية.

قلت: هل أنتِ طول الوقت تحفظين في ذهنك أنماطاً؟

قالت: صح، بدليل إنى في الطيارة أراقب المضيفة، حركتها، إيماءاتها، مشيتها، مش ممكن أعمل في يوم من الأيام شخصية مضيفة؟ ولما أشوفها بشكل إنسانى دون أن تشعر أنى أراقبها أنجح في رسم الشخصية بعيداً عن تعليمات المخرج، ده المخزون الداخلى عند الفنان. تقدر تقول إن فيه رادار بيلتقط أبسط التصرفات، ويختلف الرادار من فنانة لأخرى، لكن هذا لا يمنع الألم لعدم قدرتى على التواجد الاجتماعى وسط الناس.

قلت: عندى سؤال قد يغضبك!

قالت: اسأل!

قلت: هل أنتِ مثقفة؟

قالت: بالمعنى الدارج الكتابة والقراءة والدراسة والجامعة لست مثقفة، ولكنى مثقفة.. حياتياً، أفهم مشاعر الناس وأفهم نوازعهم وأفهم اختلافاتهم، وأيضاً منحنى الصمت الوصول لأعماق من أعاملهم في الحياة وصار لى- بالعمر- بعض الرؤية، من الممكن أن أقرأ الكثير ولا أفهم أو أستوعب.

قلت: هل علمتك جامعة الحياة؟

قالت: إنها أهم الجامعات على الإطلاق. من الممكن أن يكون خريج جامعة فرنسية أو إنجليزية وراسبا في جامعة الحياة، لكن المهم هو حجم الموهبة في الفنان، يعنى عبدالرحمن الخميسى شاف فىّ من أول نظرة موهبة تبشر، وبعدين علمونى أساتذة وسمعت ملاحظات وتوجيهات، يمكن ده علمنى أن أستخدم «ودانى» وأشوف بيهم الدنيا، عارف أحياناً أقول مش يمكن لو كنت اتعلمت ودخلت جامعة كانت تبقى الموهبة أقل، أو يبقى التعليم بياكل من الموهبة، أنا بافترض وبقول ممكن لأنى منحازة للموهبة، أنت تسمع أم كلثوم ولا تسأل في أي الجامعات تعلمت؟ الصوت الأسطورى ينسيك هذه الأسئلة تماماً، من هنا أقول لك موهبتى هي شهادتى!

■ ■ ■

قلت: لما تعملى شخصية زينب دياب، هل تقرئين السيناريو فقط أم يهمك قراءة نجيب محفوظ؟

قالت: العمل الفنى اللى سأتعامل معه هو السيناريو وشخصية زينب دياب، أنا كممثلة السيناريو هو ما أنتجه كاتبه. أضيف إليك أن الكاتب له رؤية وكاتب السيناريو له رؤية أخرى ربما ليست مطابقة للأحداث التي رسمها المؤلف الحقيقى.

قلت: هناك مفردات سياسية، هل لك علم بها؟

قالت: أعطنى مثلاً!

الفنانة سعاد حسني

قلت: لما شخصية بيروقراطية في «على من نطلق الرصاص؟» هل تفهمين بيروقراطية؟

قالت: أعرف المعنى من الصحف، لكنى أهتم أكثر برسم كاتب السيناريو للشخصية وكيف شعرت به. لازم يكون مفهوم أن مهنتنا مهنة أحاسيس. إحنا بنلعب في منطقة الإحساس. وعلى ضوء الشخصية المرسومة ومدى ما تعبر البيروقراطية عن أداء وتصرفات الممثل يكون الحكم الحقيقى لناقد موضوعى: هل اقترب من خيال المؤلف أم لا؟ وعايزة أقول المفردات هي مصطلحات خالية من المشاعر لكنها تصف موقفاً سياسياً.

سألتها: هل لك برنامج خاص للقراءة؟

قالت بشجاعة: لا. ولكن لما تشدنى حاجة أقرؤها وأفصصها وأكون سعيدة لأنها بتزودنى معلومات.

قلت: ما آلياتك كممثلة؟

قالت: موهبة معقولة وصمت للفهم أكثر وتأمل طول الوقت.

قلت: هل تملكين أن تناقشى نجيب محفوظ في دورك؟

قالت: ممكن طبعاً، لكن أفضل أسأل من كتب السيناريو لأنى هامثل الشخصية برؤيته لا برؤية نجيب محفوظ.

قلت: هل تقرئين دورك فقط أم السيناريو كله؟

قالت سعاد بدهشة: لازم أقرؤه كله علشان أعرف موقعى وسير الأحداث، لازم تكون الصورة مكتملة كشمولى، وأحياناً قد أناقش كاتب الحوار في نص أو كلمة، يعنى في مجتمع طبقة متوسطة ينقال الأولاد، وفى حى شعبى ينقال العيال، تفصيلات صغيرة لكنى أتوقف عندها، أما الملابس فعندى رؤية مهمة لما يناسب الشخصية ولكن عند قراءة السيناريو لازم أصدقه، وهل فيه غش أو فبركة أو افتعال، هنا أناقش دون خجل لازم الالتصاق بالصدق. أقول هذا بخبرتى كممثلة بلاش خبرتى بحكم إدراكى للأشياء.

■ ■ ■

قلت لسعاد حسنى: ما حدود تعاملك مع المخرجين؟

قالت: طبعاً المخرج بيكون له ملحوظات معينة وأشياء هو شايفها وهو يوجهنى، ولكن «التعبير» هذا شىء يرجع لى، لا يتدخل فيه، ولو تدخل فيه بشر يفسد على طول. هذا الذي تسميه أنت في حواراتك «إبداع ذاتى» أي التعبير من إحساسى وفهمى للشخصية، وكل فنان له منطقة إبداع ذاتى يصوغ منها شخصياته، أحياناً يضيف المخرج فتكون سعادتى، المهم أن أعبر بسلاسة شديدة عن الشخصية كما استوعبتها، يعنى المتفرج يصدق أنى زوزو أو زينب دياب أو فلانة، ولما أقول يصدق معناها أنها نمط عادى من الناس نراه ألف مرة في الحياة وليست شخصية سينمائية!.

قلت: هل أنت من الناس المؤمنين بأن الفن هو السهل الممتنع؟

قالت: أنا ما أحبش التعبيرات المتعارف عليها!

سألت سعاد: وأنت في البلاتوه صفى لى نفسك!

قالت: منتهى التركيز، لو سمعت أصوات عمال بتتخانق أقول: «من فضلك استوب خرجت من المود»!

قلت لها فوراً: وهل يمتثل المخرج؟

سعاد حسنى وكمال الشناوى فى فيلم «الكرنك»

قالت سعاد: أي نجاح للعمل فيه للمخرج نصيب ربما قبل الممثلة، طبعاً وحريص أن أكون في المود فيصل التنبيه إلى حد الصراخ: سكوت!

قلت: هل ترين نفسك في أفلام سبق لك تمثيلها؟

قالت: أحياناً، وأكون في حالة ضيق!.

قلت: ما سبب الضيق؟

قالت: الرؤية الثانية تكشف أخطاء لى في الأداء.

قلت: ومتى ترضين..؟!.

قالت: لن أرضى مطلقاً، وأظل أبحث عن الكمال وهو وهم، لا تصدق أن فناناً يرضى كل الرضا عما قدمه، وأنت تعلم أن عبدالوهاب وفيروز وربما أم كلثوم لا يفضلون سماع أغانيهم، والفنان عزيز الرضا عن فنه.

قلت: هل يقودك إحساسك دائماً؟

قالت: الإحساس مع التفكير.

قلت: ماذا تبقى من طفولتك؟

قالت: أنا نتاج طفولتى وصباى ورواسب نشأت عليها وفهمتها.

قلت: ما هي الرواسب؟

قالت: بعض الخوف من الناس، وصعوبة الثقة بالناس.

■ ■ ■

قلت لسعاد حسنى: ما الذي صنع ذوقك في الأشياء؟

هل أنتِ ترتادين المعارض؟ هل أنتِ تعشقين السفر؟ دعينى أدخل وجدانك!.

قالت: أولاً، فيه جاذبية بينى وبين الأرض دى شدانى على طول. السفر في حياتى ليس أساسياً. وعايزة أقولك إنى ست بسيطة لا أرتاد معارض ولا أزور عواصم، أنا لما أنزل من البيت بشوف آلاف نماذج الناس وتشوف كل الموجات البشرية وده يديك فكرة عن اللى بيحصل في الدنيا، يعنى تجوالى البسيط بيلخص المجتمع ككل، أنت أمام ست فنانة مش «صاخبة اجتماعيا»! أما عن المعارض فممكن «أجامل» وأقدر أقولك هناك متعة لا أنكرها.

قلت: ما الشىء الذي يعطيكِ متعة كإنسانة؟

قالت: صداقة عميقة بالدنيا!.

قلت: هل تخططين لحياتك؟

قالت: ما أحبش أفرض على نفسى تخطيط معين. الفنان لا يحتمل فرض شىء عليه، هو طائر يحلق. لازم الفنان طول ما هو عايش يتذوق الجمال في كل صورة، أنا ساعات ما أخرجش بالأيام!.

قلت: هل في فنك تحدث لك حالة استغراق؟

قالت: ده وصف دقيق وأنا بمثل شخصية جديدة في فيلم، عايشة في الدور جوه البلاتوه وخارج البلاتوه!

قلت: هل هذا يسبب عذابا للمخرجين؟

قالت: بالعكس ده مكسب للمخرج أنى دقيقة وأمينة، ربما لا يرضى المنتج لأنه له حسابات معينة تزعجه شوية لكن لما بيطلع العمل لا يشعر بالانزعاج!.

سألتها: لماذا لم تدخلى لعبة الإنتاج؟

قالت: مش لعبتى!

سألتها: هل أنت حذرة أم مغامرة؟

قالت: أحياناً مغامرة، لكن كثيراً ما أكون حذرة!

قلت: هل تغامرين في السينما؟

قالت: مغامرة محسوبة، أنا عموماً غير ميَّالة للمغامرة إذا تعلقت بالفن، ولن أفعل شيئًا غير مقتنعة به، صحيح باخد وقت طويل في التفكير لكن الفنان الحقيقى ما يستعجلش أبدًا.

قلت لسعاد حسنى: من أنتِ؟

قالت: أنا سعاد أخت القمر، وحسنى بين العباد اشتهر!!.

المصري اليوم

Exit mobile version