في عام 1946، أُطلقت الخطوط الجويِّة السودانية (سودان اير) بخمس طائرات صغيرة سعة 12 و15 راكباً، وما لبثت أن تضاعفت واتسعت سعتها وتعددت وجهاتها حتى بلغت 13 طائرة في خمسينيات القرن المنصرم، و 21 في ستينياته، وضمت طائرة نفاثة كواحدة من أولى الخطوط في إفريقيا التي تمتلك هذا النوع الأكثر حداثة حينها، وكانت وجهة هذه النفاثة ثلاث محطات فقط، هي لندن، القاهرة وبيروت.
شهدت حقبة نهاية الستينيات وبداية السبعينيات إلى الثمانينيات زيادة طردّية في عدد طائرات سودان اير وأحجامها ووجهاتها، فانضمت أحدث الطرازات إلى قوتها العاملة بحصولها على بوينغ وايرباص بمختلف (ماركاتهما)، كما شهد مطار الخرطوم الدولي تطوراً مماثلاً في خدمات الطيران والمناولة الأرضية وخدمات الملاحة الجوية والمدارج وخلافها.
إلاّ أن سودانير التي تعتبر أحد أقدم وأعرق خطوط الطيران في إفريقيا، وظلت ضمن أفضل عشرة خطوط طيران إفريقية منذ نهاية الستينيات وإلى نهاية الثمانينيات، انحدرت فجأة إلى الحضيض حتى صارت نسياً منسياً ولم يعد لها ذكر بين خطوط الطيران الإقليمية في منطقة القرن الإفريقي الموبوءة دعك عن إفريقيا، وتفوقت عليها كينيا وأوغندا وارتيريا و جيبوتي.
بعد انقلاب (الكيزان) المساخيط على السلطة، تدهورت سودانير جملة واحدة، باعت حكومة الإخوان المسلمين كل شيء، بحجة أن قطاع الطيران خاسر في كل الأحوال، حتى بلغ أسطول الخطوط الجوّية السودانية الآن طائرة واحدة فقط مخصصة لثلاث وجهات قريبة هي أسمرا وجوبا والقاهرة، إلى أن تعرضت للعطب ولا تزال، فأصبح طاقم طائرات سودان اير يضم (صفر) طائرة الآن وفي هذه اللحظة التاريخية والمفصلية من الرثاثة والتخلف التي وسمت العهد البائد، عهد الفساد والسرقات والدماء، فهؤلاء (الناس) أفسدوا كل مناحي الحياة، دعك عن سودان اير، فقد باعوا خطوطها (وجهاتها) ولعل بيعهم لخط (محطة) هيثرو يعطي مؤشراً جوهرياً لمدى الفساد الذي لحق بذممهم وهم يهتفون (الله أكبر، لا إله إلا الله) بينما يسرقون وينهبون ويبيعون الوطن قطعة قطعة.
ما أسعدني وهدأ من فوران دمي وغليانه، هو موافقة وزارة المالية في حكومة حمدوك على تصور شراكة طرحتها شركة إيرباص لتزويد سودان اير بثماني طائرات جديدة بحسب إبراهيم البدوي، وقد وافق مجلس الوزراء على ذلك، وهذا خبر يستحق الاحتفاء والابتهاج وقرع الطبول و(دق الدلاليك)، فلا يُعقل أن دولة بحجم بلادنا وأهميتها لا تملك طائرة واحدة، بينما كان يُشار لها بالبنان في هذا الصدد، إلا أنّ الإسلامويين، ربما أرادوا لنا – بحسب عقليتهم – أن نعود إلى السنة الصحيحة، فنمتطي ظهور الخيل والبغال والحمير أو نأتي كل فج عميق من هذا رجالاً أو على ظهور الضوامر من الإبل البشارية الأصيلة، فيما هم يمتلكون الفارهات من السيارات والطائرات الخاصة ويسرقون الذهب والنفط ويأكلون السحت، عليهم لعنة لا تفارقهم في حياتهم ومماتهم، وأكثر من ذلك يستحقون، فقد باعوا كل الطائرات، ثم استأجروا طائرة (متهالكة) قيمتها السوقية 600 ألف دولار (شراء)، بـ (12) مليون دولار سنوياً، فأي فساد ذمم هذا، وأي هتاف باسم الله والشريعة يغفر لهم ايغالهم في ذلك؟
خلاصة القول ومنتهاه، إننا الآن نبدأ من الصفر، بثماني طائرات، لكن لدينا طائرات أخرى موجودة في الخدمة تحت مظلة شركات خاصة، اسسها الكيزان في عهدهم، وضموا إليها المسروقات (الجوّية) الثمينة، لذلك علينا أن نراجع ملفات هذه الشركات … (إنظر بدر للطيران) مثلاً، ثم تأمل بقيّة الشركات. ولنا عودة.
صحيفة اليوم التالي