من كتاب حصاد العام في مجالس العوام، أن الراوية حكى بأن (صنايعي) أم درماني صميم لم ينل من التعليم إلا أشهراً بالخلوة، ولكن أدركته حرفة الأدب من حواري أم درمان المثففة المترعة بالأفكار والأشعار والحكايا.
اجتهد هذا العامل المنفتح على ثقافة الكتب ومهارات الشارع وتخرج من بين يديه المعروقتين وكدحه إبنه المهندس الذي درس بجامعة مرموقة، ونال شهادته العليا من إنجلترا، وعندما عاد صار مديراً هندسياً لشركة التقطير الوطنية، وهو الإسم المعلن ( لمصنع البيرة ).
بعد عودته من البعثة مباشرة استلم مكتبه الفخم وسيارته الفارهة وامتيازاته غير المحدودة ونثرياته المفتوحة في حله وترحاله. رأى الأب العامل الملتزم السيارة الفارهة وأثر النعمة فسأل إبنه ببراءة في أي المصانع تم تعيينك يا ود زينب؟ فخراً بالوالدة التي كان حظها في الكدح أضعاف كدح الوالد، فقال الباشمهندس في زهو عريض: أصبحت يا أبي مديراً في شركة التقطير الوطنية، ظاناً بأن الإسم الكودي سيخفي السلعة الرديئة المحرمة.
فرد عليه الأب في أسى بليغ وأحرف دامعة، يا خسارة تربيتي فيك و شقى الأيام وتعب السنين، تطلع لي في الآخر ( ست انداية؟). دخل بعدها المهندس الشاب في صمت بليغ وكتم بكاءه المر عن الوالد واختفى.
وفي اليوم التالي مباشرة بعد النقاش المشهود، دلف المهندس الشاب في طمأنينة لمكتب رئيس مجلس الإدارة، ورمى بمفتاح السيارة الفارهة مصحوبة باستقالته المدوية التي جاءت في سطر واحد ( نزولاً لأمر السماء وطاعةً لرغبة الوالد، أتقدم باستقالتي من مصنع البيرة ). وغادر ورأسه مرفوعاً بعد هذا الدرس العرفاني، وصار بعدها أسطورة في النجاحات الصناعية والاستثمارات بالداخل والخارج.
تذكرت هذه الحكاية وأنا أشاهد المجهودات الضخمة التي تبذلها حكومتنا الرشيدة بمختلف وزاراتها وإداراتها وهي تمارس مهنة (المناولة )في توزيع القمح والوقود بعدالة وضبط وشفافية مزعومة، حتى كادت أن تصير كل هذه المجهودات في التوزيع هي الحرية والسلام والعدالة.
قلت سبحان الله على طريقة الصنايعي أتحتاج كل هذه ( الشحدة ) والمن والأذى وإذلال القلب، وكسر العين، وشراء القرار السياسي (بدراهمي لا بالحديث الناعم) لكل هذا العرق والمجهود المضني؟
إن هذا الشعب بدلا عن ( الشحدة الإقليمية والدولية ) كان يستحق قمحه الذي يكفيه ويكفي العالم، ويستحق قطنه الذي يستر عورته وعورات الآخرين، ونفطه الذي لو أحسن استغلاله لكفاه وفاض على الجوار، وصمغه الذي يشكل المادة الحقيقية لكل أدوية العالم ومشروباته التي تملأ الأقداح والبطون.
ولو أحسن استغلال الموانئ الاستراتيجية بالبحر الأحمر لحمى ثغره الشرقي دون قواعد، ولأصبح المتنفس لكل دول الصناديق الأفريقية، ولكفته ثروات البحر كل رهف صندوق النقد الدولي. ولو أجاد التعدين وأقام البورصة للذهب لأزدانت كل نحور السماوات ولملأ مصارف الدنيا ولخرج الجنيه في مباراة الرد بالتعادل (واحد واحد) مع الدولار الصهيوني.
ولكن يا للحسرة ماذا نفعل مع أباطرة الشحدة وستات الأنادي؟!!
حسين خوجلي