في مائة عام، لم تُقدّم السينما السودانية إلاّ 5 أفلام طويلة فقط، بحسب المؤرّخ كمال إبراهيم، في كتابه “السينما في السودان: ماضيها وحاضرها ومستقبلها”. لكن، رغم العدد القليل للغاية، شهدت الأعوام والعقود المتتالية ظهور تجارب ومحاولات وأحلام موؤودة كثيرة، اصطدمت أحياناً بنقص الإمكانيات، وضعف التمويل، وقلّة عدد الصنّاع. كما اصطدمت دائماً بالسلطة الديكتاتورية، المسيطرة على المجال العام، إلى درجة إغلاق صالات السينما كلّها.
من هذا التاريخ الطويل، تأتي أهمية عام 2019 بالنسبة إلى السودان، الذي قامت فيه ثورة شعبية أدّت إلى إسقاط الرئيس السابق عمر البشير، بعد 30 عاماً أمضاها في الحكم، وفي الوقت نفسه كانت هناك “ثورة سينمائية” بكلّ معنى الكلمة، تمثّلت في إنجاز 3 أفلام، ربما تكون من أهمّ إنتاجات السينما العربية في العام الفائت.
فأمجد أبو العلاء أنجز فيلمه الروائي الطويل الأول، “ستموت في العشرين”، الحاصل على حفاوة عالمية بالغة، والفائز بجائزة “أسد المستقبل” في الدورة الـ76 (28 أغسطس/آب ـ 7 سبتمبر/أيلول 2019) لـ”مهرجان فينيسا السينمائي الدولي”، والمتميّز بجودة تقنية عالية للغاية، تتحدّى أيّ ضعف للإمكانيات وأي تقيّد بالظروف، مع حكاية تعكس تفاصيل كثيرة من الواقع السوداني، وصراع الأجيال، ومحاولة التحرّر من الإرث الثقيل الذي يمثّله جيل أكبر. بالإضافة إلى أحد أشكال التحرّر واكتشاف العالم داخل الفيلم، أي السينما نفسها، ما اعتبره أبو العلاء بُعداً شخصياً للحكاية كلّها، إذْ “ساعدته الأفلام على اكتشاف عالمٍ خارج دوائر بلده المغلقة”.
الفيلم الثاني هو “أوفسايد الخرطوم”، الوثائقي الطويل لمروى زين، عن شابات سودانيات يحاولن ممارسة رياضة كرة القدم بشكل احترافي، رغم الظروف السياسية المتأتية من حكم عسكري إسلامي، يمنعهنّ عن تحقيق ذلك. الطبيعة النسوية للفيلم (نظراً إلى صانعته وموضوعه)، تجعله جزءاً مهماً من الحِراك الكبير للسينما والثقافة السودانيتين.
الثالث وثائقيّ طويل أيضاً بعنوان “الحديث عن الأشجار”، لصهيب جاسم الباري، الذي يُعدّ وثيقة شديدة الاستثنائية والروعة، عن كلّ ما يخصّ السودان في العقود الأخيرة، حيث يمتزج الشخصي بالإنساني والسينمائي بالسياسي، في توازن بديع، جعله يفوز، استحقاقاً لا تعاطفاً، بجائزتَي الجمهور وأفضل فيلم وثائقي، في الدورة الـ69 (7 – 17 فبراير/شباط 2019) لـ”مهرجان برلين السينمائي الدولي”.
يتناول الفيلم محاولة 4 مخرجين سودانيين إعادة إحياء صالة عرض سينمائي للجمهور، وهم إبراهيم شدّاد وسليمان إبراهيم والطيب مهدي ومنار الحلو، وجميعهم أعضاء في “جمعية الفيلم السوداني”، التي تأسّست في ثمانينيات القرن المنصرم. لكلّ واحد منهم أفكار ومشاريع وطموحات، تهدف إلى خلق موجة سينمائية، تضع بلدهم على الخريطة، بالتوازي مع موجة “الواقعية الجديدة” في السينما المصرية، قبل أن يؤدّي الانقلاب العسكري لعمر البشير، نهاية الثمانينيات نفسها، إلى وأد الأحلام لربع قرن. أثناء تصوير الفيلم عام 2015، قاموا برحلة لافتتاح صالة سينمائية، صادف أنّ اسمها هو “سينما الثورة”.
بشاعرية وتلقائية شديدة، يتحرّك صهيب جاسم الباري بالكاميرا بين الأصدقاء العجائز، من دون حديث مباشر مع الشاشة، ومن دون طرح أسئلة عليهم عن أيّ شيء، مكتفيًا بمتابعة مساراتهم منذ اللحظة الأولى، بين الظروف المعيشية والاقتصادية الصعبة التي يعانونها (مشهد الافتتاح اتصال من شدّاد يسأل فيه عن عودة الكهرباء المنقطعة منذ 4 أيام)، وشغفهم الشديد بالسينما (يعيدون تمثيل مشهد ختام “بولفار سانسيت” (1950) لبيلي وايلدر، تعويضاً عن عدم قدرتهم على صناعة أفلام)، ومحاولة كلّ واحد منهم التغلّب على اكتئابه أو يأسه من هذا المشروع الصغير، الهادف إلى نشر ثقافة سينمائية، وفتح حوار في بلدٍ، يريده حكّامه أن يبقى مكتوماً.
ولأنّ عُمر كلّ واحد منهم تجاوز 70 عاماً، فإنّهم يعبّرون عن أنفسهم بصدق وأريحية شديدين، مسترجعين ذكريات، ومتكاتفين معاً في محاربة الحاضر القاسي، ولو بانتظار صغير، كافتتاح صالة سينما.
الجميل في هذه الرحلة أنّها تعكس التاريخ كلّه، السياسي والسينمائي، من دون افتعال أو شعور بالتوجيه. يقول منار الحلو إنّ السودان “عرف 3 ديمقراطيات و3 ديكتاتوريات”؛ ويسترجع إبراهيم شدّاد فترة دراسته في القاهرة، ثم هجرته إلى موسكو “بعيداً عن الأحباب والأعداء والضباع”، ثمّ عودته إلى بلده، والانقلاب الديكتاتوري المستمرّ 30 عاماً، فيظهر الرئيس عمر البشير على شاشة التلفزيون عام 2015، إثر فوزه بفترة رئاسية جديدة، بنسبة 94 بالمائة من الأصوات، فيَسخر الأصدقاء من المسرحية الهزلية، ومن حديث البشير عن الديمقراطية، بينما يعجزون عن فتح صالة سينما، وعرض فيلم Django Unchained، الذي أنجزه كوانتين تارانتينو عام 2012، للجمهور مجاناً.
الواقع مُرهِق للغاية، والأمل في أي تغيير مُنعدم، والبيروقراطية والقوانين تمنع كلّ حياة في السودان. لكن، عندما يقول عمر البشير في خطابه “سألتقي بكم في انتخابات أخرى، في 2020″، تكون اللحظة مختلفة عن زمن تصويرها، فالجميع يعلمون أنّ الثورة أطاحت به فعلياً، كما تكون مُشاهدة “الحديث عن الأشجار” بحدّ ذاتها إحياء للسينما السودانية، في أفضل طريقة محتملة، وتعطي “أملاً” كبيراً في المقبل من الزمن.
العربي الجديد