ولأن العقبة الكأداء أمام التحول الديمقراطي، هي هذه الجماعة الانقلابية المغلقة (الإخوان المسلمين)، فإنّ من الحكمة البدء بها، وتجريدها من مصادر قوتها (المال والسلاح) المسروق من المواطن، وكذلك آلتها الإعلاميِّة التي أسستها من أموال الشعب الفقير. ولكّن لا تزال حكومة التسوية السياسية تدير هذا الملف الحساس كونه متعلق بمستقبل البلاد أن تكون أو لا تكون، بنوعٍ من البلاهة والتسطيح.
ولربما كانت المحاولة الانقلابية الأخيرة التي قادتها هيئة العمليات المحلولة، الذراع العسكري الضاربة للكيزان داخل جهاز الأمن والمخابرات السابق، إحدى التبدِّيات الكبرى لهذه البلاهة والتسطيح، فالجماعة المخلوعة بدأت مقاومتها للسلطة في وقتٍ مبكر، عندما كانت تحرض المجلس العسكري الانتقالي حينها، بضرب الثوار وإبادتهم، ووصفهم بالمارقين والصعاليك، كل ذلك عبر التليفزيون الحكومي والصحف الممولة من الحزب البائد، ثم ما إن فُض الاعتصام في ليلة الغدر (29 رمضان) حتى هللت الجماعة وكبّرت، وبذلت ما بوسعها من تأييد ودعم للمجلس العسكري الانتقالي ولبيان رئيسه البرهان الذي قضى بإيقاف التفاوض مع (قحت) والمضي في تكوين حكومة مؤقتة بمعرفته إلى حين تنظيم انتخابات بعد 9 أشهر و(بمعرفته أيضاً)، وتصدّرت مشهد التحريض والدعوة إلى إراقة الدماء في ذلك الحين منابر مساجد الجماعة متمثلة في شيوخها عبد الحي يوسف، محمد عبد الكريم، ومحمد علي الجزولي، وصحفها الانتباهة والصيحة والسوداني، ولما فشل مسعاها وخاب، وانعقد الاتفاق السياسي ووقعت الوثيقة الدستورية وبدأت السلطة والمال الفاسد في التسرب من بين أصابعها، قررت شدّ البلاد من أطرافها فتوجهت إلى مدن القضارف وخشم القربة لتثير الفتن العرقيِّة بين مكونات مجتمعية ظلت متعايشة ومُحبة لبعضها لأكثر من مائة عام، ونجحت جزئياً عبر أذرعها (اللجان الأمنية ونظارات القبائل)، ثم حاق بها الفشل، فتوجهت إلى بورتسودان أقصى الشرق والجنينة أقصى الغرب وجلبت عصابة النيقرز فعملت نهباً وحرقاً وتقتيلاً، وأشعلت حريقاً عظيماً، ما ظنت إنه سينطفئ إلا بزوال الحكومة الحالية، ففشل سعيها واستقرت الأحوال نسبياً، فسيَّرت ما عرف بمسيرة الزواحف، وأخرجت كوادرها في مدينة ود مدني، وفشلت أيضاً في كل ذلك، والحكومة تنظر ضاحكة مستبشرة (ما هاميها)، إلى أن جاءتها الضربة في (العزيزة) الخرطوم، حين قرر جماعة (إخوان الشر) أن آن أوان الضربة الموجعة، فكان تمرد هيئة العمليات.
ومع، استيلاء قوات الكيزان المسلحة (هيئة العمليات) على مقارها، وغلقها لبعض الطرق الرئيسة بالعاصمة، واحتلالها لحقلي نفط في دارفور ينتجان (5 آلاف برميل) يومياً، ظهر عصام دكين واللواء أمن اقتصادي متقاعد (الذي ظهر في حلقات قناة العربية ضمن جماعة الإخوان)، وعاد صحفيو التنظيم إلى الواجهة مرة أخرى يحرضون ويؤيدون الانقلاب بشكل مباشر وغير مباشر، ويبررون له، والحكومة (ساكتة)، لا أحد يستدعيهم ليسألهم عن مسؤوليتهم في إراقة الدماء وتهديد الأمن القومي والسلم الاجتماعي، لماذا؟ لا أحد يدري غير حكومة (قحت) بمجلسيها.
على كلٍ، ليس لدينا إجابة عن تقاعس الحكومة في مساءلة المحرضين على العنف والدم، لكنا نسأل هؤلاء، هنا وبشكل مباشر: هل مستحقات التقاعد لضباط وجنود هيئة العمليات المحلولة تختلف عن مستحقات بقية جنود وضباط جهاز الأمن؟، فإذا كانت الإجابة بـ(لا)، نسأل مجدداً: طيّب كيف يتم التفاوض حول حقوق معروفة ومنصوص عليها في قانون التقاعد للعسكريين، فالرواتب التقاعدية والامتيازات الأخرى بالنسبة لكافة الرتب من جندي (فرد) إلى مشير، معروفة ومنصوص عليها، فلماذا يفاوضون هؤلاء على (معاشات)؟ هل هذه الهيئة منظومة عسكرية نظامية تخضع لقوانين التقاعد المعروفة؟ أم إنها هيئة خاصة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، ترى إنها مميزة واستثنائية، لذلك يجب أن تكون الرواتب التقاعدية لمنسوبيها مميزة واستثنائية أيضاً، وتجبر المكون العسكري بمجلس السيادة على التفاوض معها، ويقرر لها 23 مليون دولار، فترفض وتتمرد وتطلق الرصاص على الجيش والمدنيين؟
صحيفة اليوم التالي