إذا ما تعسفنا قليلاً، يُمكننا أن نطرح ما يندرج تحت العنوان أعلاه، بتلك الصيغة الواهنة والمستكينة التي يحاجج بها الإسلامويون في الصدد، من أجل تعطيل المُضي قُدماً في التطور والتقدُّم المُطرد نحو دولة مدنية أساسها المواطنة والقانون والحقوق المتساوية والرعاية الاجتماعية وحرية التفكير والضمير والاختيار في شيء، بأن نقول: بأن خصوصية المجتمع السوداني تحول دون تأسيس دولة مدنية ديمقراطية مرةً واحدة، لأنه مجتمع فقير ماديِّاً وفكريِّاً محمول على القبيلة والطائفة والعائلة والعلاقات الاجتماعية المتشابكة على مستوى الأسر الممتدة؛ ما يعيق تكريس الحرّية الفردية أساس الدولة والنظام السياسي المدني وتعظيمها.
لكن، من ينظر إلى هذه المحاججات ببصيرة فاحصة، لا يُعييه أن يكتشف بسرعة شديدة، أنها، تبدو تماماً مثل (كلمة حق أُريد بها باطل)، فالدولة المدنية لم تقم في المجتمعات الغربية وهي حالة من الثراء المادي والفكري وفي أوضاع مستقرة من التطور الاجتماعي مبذولة بها الحريات مد البصر وغارقة في السلام حتى أذنيها، ونافية لسلطة رجال الدين على الفضاء العام والخاص لتلك المجتمعات، بل كانت مثلما نحن عليه الآن، من فقر وجهل وتسلط ديني وطائفية وحروب وصكوك غفران ومصادرة للحريات وقمع للفكر، لذلك قررت تلك المجتمعات بما تملك من إرادة جمعية قوِّية التخلص من ذلك الإرث الثقيل والمتخلف، فنبذته مرة وإلى الأبد، عبر نضالات متصلة وثمن مُقدَّرْ، فصارت إلى ماهي عليه الآن، يهرب إليها الإخوان المسلمون والسلفيون والتكفيريون عندما تضيق عليهم بلدانهم – فيصيبون منها حظوظاً وافرة من الحرية، يقيمون صلاتهم ويمارسون دعوتهم ويتزوجون الكتابيات مثنى وثلاث ورباع من أجل إدخالهن الإسلام وهكذا.
لذلك، أقول، نعم نستطيع ونحن غارقون في أوضاعنا الهشة والرثة، أن نؤسس ونؤثث لدولة مدنية، لأننا بدونها لا يمكننا القضاء على تخلفنا ورجعيتنا وفقرنا وظلمنا لأنفسنا وغيرنا، فعبر الديمقراطية المُفضية إلى الدولة المدنية والمجتمع المديني، وحدها نتمكن من العبور إلى حالة من الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ونقضي على الانتماء إلى الهويات الضيقة (الإثنية والجهوية) ونُحيِّد جماعات الهوس الديني، ونجعلها أكثر تسامحاً وأكثر قرباً إلى روح الدين، وأبعد عن الدعوة إلى الإسلام بحد السيف أو حد اللسان (العنف اللفظي)، وندمجها في الحياة الدنيا، حتى تكون أكثر فائدة وإثماراً.
نحن مجتمع خلاّق وحر، فقط نحتاج إلى نظام سياسي مثلنا، وهذا النظام لا تأتي به جماعات الإسلام السياسي، بل هي بطبيعتها الطفيلية والانتهازية إذ تتوسل العاطفة الدينية لمكاسب سياسية تجعلها في السلطة لا لتقيم دين الله بين الناس بالحق، بل لتسرق وتنهب وتفسد في الأرض وتريق الدماء دونما سبب – كما اعترف المخلوع البشير – وقبله عرابه الأكبر حسن الترابي، غير مرة في لحظات صدق مع النفس، قليلة.
نعم، نستطيع، لكن لا بُدّ أولاً من تحييد الحاضنات المتخلفة التي يمكن أن تعيق استمرارية الدولة المدنية، وتقطع الطريق عليها، لتعيدنا إلى المربع الأول، وهي حركات الإسلام السياسي، والمؤسسة العسكرية، والإدارات الأهلية، والمعارضة المسلحة (ولهذه خصوصية) نشرحها في أوقات لاحقة. هذه الحاضنات ينبغي دمجها في السياق المدني، وهنالك سُبل عديدة، لست بصدد التطرق إليها الآن وهنا.
ولكي أعضد من أهمية ما ذكرت، أحيلكم إلى تجربة قريبة، وهي تجربة التحول الديمقراطي في دول شرق أوروبا التي بدأت في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، غبر ثورات شعبية سلمية كالتي أنجزناها، لكن ما كان ليُكتب لها النجاح مالم تنهار حاضنتها الكبرى (الاتحاد السوفيتي)، لذلك فإن العمل على إنهاء فاعلية حاضنات التخلف والديكتاتورية في بلادنا يضمن لنا الذهاب إلى دولة مدنية بشكل سلس.
صحيفة اليوم التالي